“الفانطاسمات” اللسنية حول الأمازيغية بالمغرب
تعبّر المفاهيم، وبشكل مجرد ومعنوي، عن الواقع المادي الملموس، تختصر غناه وتنوعه وتعقده وتعدد مظاهره في تركيب ذهني يلخصه المفهوم المعني.
في المغرب، ومنذ نشأة وانتشار أسطورة “الظهير البربري (انظر كتاب “الظهير البربري: حقيقة أم أسطورة؟”) انطلاقا من صيف 1930، نشأت وانتشرت، نتيجة لتلك الأسطورة، مجموعة من الأفكار والتصورات حول الأمازيغية، ستصبح، مع مرور السنين، وخصوصا بعد الاستقلال، وبفعل تكرارها وانتشارها وشبه الإجماع الحاصل حولها، ستصبح بمثابة حقائق ثابتة ومسلمات بديهية تشكّل الإطار المرجعي لكل نقاش حول قضايا اللغة والهوية والثقافة الأمازيغية بالمغرب.
عندما نحلل هذه “الحقائق” بقليل من الموضوعية والمنهجية العلمية، سنلاحظ بسهولة أنها بعيدة كل البعد عن العلمية والموضوعية، وأنها مواقف ذاتية وإيديولوجية تروّج أفكارا أسطورية ومتخلفة، وتنشر إشاعات كاذبة حول الأمازيغية، تغذيها نزعة عنصرية وعرقية ظاهرة أو باطنة حسب السياق والظروف.
وبدل تضييع الوقت في تصنيف هذه المواقف حسب خصائصها السلبية ومضامينها اللاعلمية ومحتواها الأمازيغوفوبي والعنصري المتخلف، يمكن استعمال مفهوم واحد يجمع كل سلبياتها، ويبرز نزعتها العنصرية، ويلخص محتواها الأمازيغوفوبي. إنه مفهوم “الفانطاسم” Fantasme الذي سنسنده في هذا المقال إلى كل المواقف الأمازيغوفوبية التي تخص اللغة واللسان الأمازيغيين، فنقول “الفانطاسمات” اللسنية حول الأمازيغية.
و”الفانطاسم”، كما يعرف في التحليل النفسي، بناء تخيلي، شعوري أو لاشعوري، يمكّن صاحبه من التعبير عن ـ وإشباع ـ رغبات مكبوتة، قليلا أو كثيرا. وتعرّفه موسوعة “أونيفيرساليس 2012 (Universalis 2012) على أنه إنتاج خيالي يمثّل صاحبَه في وضعية معينة، ويعبر، بشكل أكثر أو أقل انكشافا، عن رغبة.
انطلاقا من هذه التعاريف، يمكن اختصار مكونات “الفانطاسم” إذن في اثنين رئيسيين:
ـ التخيل ـ الشعوري أو اللاشعوري ـ المشوّه للواقع، كوسيلة،
ـ إشباع رغبة ـ قد تكون أو لا تكون مكبوتة ـ كغاية.
ما علاقة هذه المصطلحات (التخيل، الرغبة، الإشباع)، وكذلك مفهوم “الفانطاسم” نفسه، بالقضية الأمازيغية عموما واللغة الأمازيغية خصوصا؟
1 ـ التخيّل:
لقد رأينا كيف أن التخيل (بناء تخيلي) عنصر أساسي في ظاهرة “الفاطاسم”. وعندما نقول “التخيّل” فمعنى ذلك أن الأمر يتعلق بشيء غير واقعي وغير موجود.
وحينما نفحص التصورات الأمازيغوفوبية السائدة بالمغرب حول اللغة الأمازيغية، سنجد أنها بالفعل عبارة عن توهّمات وتخيّلات غير مطابقة للواقع، يُلجأ إليها لتبرير موقف مسبق من الأمازيغية.
فعندما يقول وزير التعليم العالي السيد لحسن الداودي، في اليوم الدراسي المنظم بمجلس المستشارين يوم الأربعاء 21 نونبر 2012 حول “تدبير اللغات وتفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية في ضوء الدستور”، بأن الأمازيغيين اصبحوا أميين في لغتهم، لأنّ الأطفال يدرسون أمازيغية في المدرسة، لكنهم في البيت يتكلمون أمازيغية مختلفة، فهو يكرر كليشيهات متداولة حول الأمازيغية المعيارية والموّحدة، والتي تقول (الكليشيهات) بأن هذه اللغة المدرسية لغة مصنوعة ولا علاقة لها بالأمازيغية الحية المعروفة. فهذا “الرأي” حول الأمازيغية المعيارية لم يأت نتيجة بحث علمي وإحصاء ميداني وتتبع منهجي دقيق للمسألة على مدى سنوات، وإنما هو مجرد حكم مسبق حول اللغة الأمازيغية يجد مصدره في الثقافة الأمازيغوفوبية السائدة، ويرمي إلى قطع الطريق على هذه اللغة حتى لا تصبح لغة معيارية وموحدة كشرط لاستعمالها الرسمي في مؤسسات الدولة ووثائقها الرسمية. وبالتالي فهو حكم لا ينبني على أي معطى واقعي بل هو مجرد “تخيّل” لحال اللغة الأمازيغية بناء على إيجاءات ومرجعيات الثقافة الأمازيغوفوبية كما قلت. فمنطلقات هذا الحكم على الأمازيغية لا يختلف إذن، من حيث الدلالة والوظيفة، عن “الفانطاسم” كما سبق شرحه.
نفس “الفانطاسمات” اللسنية تفسر وتحرّك المواقف الأمازيغوفوبية المعروفة للأستاذ عباس الجراري الذي أفتى، في المحاضرة التي ألقاها يوم الثلاثاء 13 نونبر 2012 بقاعة معهد الدراسات الإفريقية بالرباط تحت عنوان “الهوية الوطنية واللغة”، أن يكون تدريس الأمازيغية اختياريا وغير خاضع للنظام الإلزامي، بجانب تعليم اللهجات المحلية الخاصة بمختلف مناطق وجهات المغرب، كما أكد في نفس المحاضرة أن حرف “تيفيناغ” هو حرف “غريب”، وأن استعماله لكتابة الأمازيغية خطأ لأنه لو كتبت بالحرف العربي لتعلمها المغاربة جميعا. فالأستاذ الجراري لم يأت، هو كذلك، بجديد، بل ردد فقط نفس “الفانطاسمات” اللسنية التي تؤطر “تصوره” للغة الأمازيغية ووظيفتها ومكانتها والحرف الملائم لها.
ونعطي مثالا ثالثا من الأستاذ محمد شركي الذي أكنّ له كل الاحترام والتقدير، والذي كتب مقالا بموقع (www.oujdacity.net) يوم 19 نونبر 2012، تحت عنوان دالّ هو: “إذا كانت النية وراء اعتماد كتابة الأمازيغية بغير الخط العربي هي النيل من القرآن فالله متم نوره”، يناقش فيه حرف تيفيناغ هو كذلك. إلا أن الجديد في “فانطاسماته” اللسنية حول الأمازيغية هو ربطه، كما يدلّ على ذلك عنوان مقالته، لاختيار حرف “تيفيناغ” لكتابتها بمعاداة الإسلام. لهذا فهو يقول موجها خطابه إلى المدافعين عن الأمازيغية وحرفها: «ومن كانت له منكم الشجاعة الكافية فليصرح بوضوح أنه إنما يعادي نور الله عز وجل النازل بالعربية ولا يعادي العربية في حد ذاتها، عوض لجوئه إلى أسلوب التمويه على النية الخبيثة والمبيتة ضد نور الله عز وجل الذي تعهد بإتمامه سبحانه ولو كره الكارهون». عندما نقرأ هذا الكلام، نتساءل: لماذا نسي السيد شركي قراءة “اللطيف” مع أنه يستعيد نفس السياق الذي قرئ فيه “اللطيف” في ضيف 1930؟
هذا “الفانطاسم” الذي يبرز الأمازيغية كمهددة للإسلام تحاول النيل منه، هي من بقايا أسطورة “الظهير البربري” التي أشاعت أن ظهير 16 ماي 1930 كان يرمي إلى محاربة الإسلام وتنصير الأمازيغيين وإخراجهم من عقيدة الإسلام.
النموذج الرابع، على سبيل المثال دائما وليس الحصر، “للفكر” اللسني “الفانطاسمي” المرتبط بالأمازيغية، يمثّله “جينيرال” الحرب على الأمازيغية، الأستاذ فؤاد بوعلي الذي يمحور “فانطاسماته” الأمازيغوفوبية حول فكرة ثابتة كوسواس يلاحقه ولا يفارقه، وهي أن المطالب الأمازيغية تستهدف «العربية وعلاقتها بالوجود الهوياتي للأمة» (مقاله بـ”هسبريس” بتاريخ يوم الأربعاء 28 نونبر 2012). ولهذا فإن «خصوم الوجود الهوياتي يشتغلون ليل نهار ضد كل ما يمت للعربية بصلة»، كما كتب بنفس المقال. ولأن الغاية (شيطنة الأمازيغية والتأليب عليها) تبرر الوسيلة (الفانطاسم)، فإن التناقضات التي تؤثث المواقف “الفانطاسمية” للسيد بوعلي تبدو له شيئا عاديا وطبيعيا. وهكذا، فبعد أن يؤكد أن تدريس الأمازيغية المعيارية قرار «لم يشارك فيه الشعب»، متبنيا ومكررا ما قاله الوزير السيد لحسن الداودي، ينقض هذا الكلام ويكتب أن القضايا الهوياتية والثقافية واللغوية لا يمكن أن تحل إلا «ببحث علمي يستحضر الآفاق الإجرائية للوضع اللغوي عموما». فأين هي مشاركة الشعب التي طالب بها في قضية تدريس الأمازيغية، رغم أنه موضوع علمي يشترط متخصصين في علوم التربية والبداغوجيا والديداكتيك واللسانيات، لكن استغنى عنها عندما يتعلق الأمر بتبرير المواقف المعادية للأمازيغية؟
من جهة أخرى، وكمثال آخر على تناقضات السيد بوعلي، ألم يكن الترسيم الدستوري للأمازيغية، مع ما يفترض ذلك من تدريس جدي لهذه اللغة بالشكل الذي يجعلها لغة معيارية وموحّدة تستعمل في كل مؤسسات الدولة ومرافقها، قرارا شارك فيه الشعب عندما صادق على الدستور الذي يتضمن هذا الترسيم؟
وهو قرار شعبي خاص بالمجال والقضايا التي يقرر فيه الشعب والأمة، وليس العلماء والمختصون الذين لهم مجالهم وقضاياهم التي يقررون فيها بناء على نتائج البحث والعلم الموضوعيين وليس استنادا إلى رأي الشعب في تلك القضايا العلمية.
واضح أن هذه النماذج من المواقف الأمازيغوفوبية حول اللغة الأمازيغية وحرْفها وتدريسها، هي عبارة عن توهّمات حول واقع وحقيقة اللغة الأمازيغية، ولهذا أدرجناها ضمن مفهوم “الفانطاسمات” اللسنية على اعتبار أن من بين ما يميز “الفانطاسم” هو التوهّم والتخيّل، كما رأينا.
2 ـ الرغبة وإشباعها:
العنصر الثاني في “الفانطاسم” هو أنه وسيلة لإشباع رغبة ما. فما علاقة هذا الإشباع وهذه الرغبة بالأمازيغية وتدريسها؟
ما يرغب فيه الأمازيغوفوبيون هو أن تكون الأمازيغية لغة متخلفة وعاجزة، وذات نزعة انفصالية تهدد وحدة المغرب لأنها مجرد لهجات متفرقة لا يمكن أن ترقى إلى لغة معيارية وموحدة، تحارب العربية وتعادي الإسلام، لا تصلح للتدريس ولا للتعليم، ويكون حرفها رسما “غريبا” لا يجوز أن يتعلمه المغاربة… الخلاصة أن مضمون الرغبة عند المناوئين للحقوق الأمازيغية يتشكل إذن من مجموع الثقافة الأمازيغوفوبية السائدة بالمغرب منذ ظهور أسطورة “الظهير البربري” في صيف 1930.
ولأن هذه الرغبة لا يمكن إشباعها في الواقع بطريقة عادية وطبيعة، لأن الأمازيغية ليست في ذاتها لا لغة متخلفة ولا عاجزة، ولا هي انفصالية تهدد الوحدة الوطنية، ولا هي تعادي الإسلام وتحارب اللغة العربية، ولا هي لغة لا تصلح للتدريس ولا يمكن توحيدها ومعيرتها، ولا أن حرفها “غريب” يجب رفضه واستبداله بالحرف العربي… فلذلك كان لا بد من تحقيق هذا الإشباع ببناء “فانطاسمات” حول الأمازيغية، تبرزها بالشكل الذي يتلاءم مع ما يرغب الأمازيغوفوبيون أن تكون عليه الأمازيغية، وليس كما هي في الواقع. وهذا ما يشعرهم بالإشباع والمتعة.
ليس غريبا أن تتنامى وتتكاثر هذه “الفانطاسمات” اللسنية حول الأمازيغية، والتي تتخيّلها في وضعيات تبرزها كما لو كانت كلها مساوئ وشرورا وعائقا للتنمية والتقدم، وتظهر حرفها كغول يرعب التلاميذ ويخيفهم وينفّرهم من التعلم والمدرسة. لماذا ليس الأمر غريبا؟
لأن المعادين للأمازيغية بذلوا قصارى جهدهم لمنع الترسيم الدستوري لها. أما وقد أصبح هذا الأخير أمرا واقعا وحاصلا، فلم يبق لهم إلا أن يمنعوا نجاح تدريسها باختلاق “فانطاسمات” لسنية تتصوّر الأمازيغية في وضعية اللغة التي لا تصلح للمدرسة، حتى لا تستعمل كلغة رسمية في مؤسسات الدولة ومرافقها ووثائقها، وهو ما يبقي ترسيمها معطّلا وغير نافذ.
يمكن النظر إلى الرغبة، المرتبطة بـ”الفانطاسم”، على أنها تمثل مرحلة “التمني”. لكن الانتقال من الرغبة إلى الإشباع “الفانطاسمي”، أي الخيالي والوهمي، هو انتقال من “التمني” إلى “الاستمناء” الذي هو إشباع يعوّض الواقع بوضعيات وهمية ومتخيلة. هذا ما يفعله أصحاب هذه “الفانطاسمات” اللسنية حول الأمازيغية. إنهم يمارسون الاستمناء الأمازيغوفوبي لأنهم عاجزون عن إيقاف زحف الأمازيغية وتقدمها المتواصل والمطرد، تماما كأصحاب العادة السرية الذين يعجزون عن إيجاد امرأة حقيقية فيكتفون بامرأة متخيَّلة.
كاتب ومفكر وباحث ومناضل أمازيغي منحدر من منطقة الريف ومدير نشر جريدة تاويزا. ألف العديد من الكتب والمقالات التنويرية القيمة