هل يفيد الحِجر الصحّي في تخفيف الحِجر على الأمازيغية؟
عندما قال لي الدكتور حسن بنعقية، في دردشة هاتفية، إن هناك من يُفيده الحِجرُ الصحي، وأنه يعتبر الأمازيغية ضمن المستفيدين من فرض حالة الطوارئ الصحية، أدركت للتوّ مضمون الفكرة التي يرمي إليها، والتي ربطتها مباشرة بمقال سبق أن كتبه بعنوان:”vive l analphabétisme” (عاشت الأمية). لقد بدت لي الفكرة فرْضية تستحق التحليل والمناقشة. وذلك هو موضوع هذه الورقة.
حتى نفهم فرْضية العلاقة السببية التي يمكن أن تقوم بين الحجر الصحّي وبين ما يمكن أن تربحه الأمازيغية من هذا الحِجر، يجدر التذكير أن هذه الأخيرة، وقبل أن يعرف المغاربة الحجر الصحّي الذي اضطر فيروس “كوفيد 19” المغربَ إلى فرضه منذ مارس 2020، سبق لها أن عرفت وعاشت، وخصوصا بعد الاستقلال، حِجرا قيّد حريتَها وحركتَها، تمثّل في حرمانها من ولوج المدرسة والإدارة والمحكمة والمسجد، ومن التنقّل بحرية داخل مؤسسات الدولة وفي الفضاءات العامة، مع إجبارها على احترام مسافة من التباعد تفصل بينها وبين هذه الفضاءات والمؤسسات والمرافق العمومية، وإلزامها بوضع كمامة لمنعها من الكلام. وهو ما نتج عنه تراجع في تداولها واستعمالها في التواصل، لأن فضاء هذا الاستعمال أصبح محدودا وضيّقا نتيجة إخضاعها للحِجر، ولمسافة التباعد التي تحظر عليها الاقتراب من ذلك الفضاء، وبسبب الكمامة التي فُرضت عليها منعا لها من الكلام.
وإذا كانت العربية هي التي مُنحت لها، مقابل فرض الحِجر والكمامة ومسافة التباعد على الأمازيغية، الرخصةُ من قبل الدولة لولوج المدرسة والإدارة والمحكمة والمسجد، والتنقّل، بلا قيد ولا شرط، داخل مؤسسات الدولة، فلا يعني ذلك أنها، بسبب ما حظيت به من ترخيص وامتياز، هي التي كانت وراء تراجع استعمال الأمازيغية في التواصل على اعتبار أن جزءا من الفضاءات التي كانت تنشط فيها الأمازيغية تحوّلت إلى فضاء تُستعمل فيه العربية. هذا غير صحيح تماما. لماذا؟ لأن العربية منذ أن دخلت إلى المغرب وهي تشتغل ضمن مجالها الخاص بها، والذي هو مجال الاستعمال الكتابي وليس مجال التخاطب والتواصل الشفوي، وذلك راجع إلى فقدانها لوظيفة التخاطب في الحياة اليومية. ولهذا فهي لم توسّع مجال استعمالها على حساب مجال استعمال الأمازيغية، الذي تقلّص بفعل الحِجر المفروض عليها، مما كان سينتج عنه انتقال مجموعة من المغاربة من استعمال الأمازيغية إلى استعمال العربية. فهذا لم ولن يحصل لأنه لا يوجد مغربي واحد ـ ولا أي إنسان عربي حقيقي واحد ـ يستعمل العربية كلغة تواصل وتخاطب في الحياة اليومية. ولهذا فإن التعريب اللساني، المرتبط بالعربية المدرسية، لا علاقة له بتعريب اللسان الأمازيغي للمغاربة.
هذا التعريب اللساني للأمازيغيين هو ما ستقوم به، ليس العربية إذن كما قلت، وإنما الدارجة. وهذا شيء مفهوم وواضح إذا عرفنا أن هذه الدارجة أنتجها الأمازيغ ليتخلوا عن أمازيغيتهم، ويستعملوا بدلها الدارجة اعتقادا منهم أنها هي العربية التي تجعل منهم عربا، تعبيرا عن تحوّلهم الجنسي من جنسهم الأمازيغي الحقيقي والأصيل إلى جنس عربي زائف ومنتحَل. وهذا ما نتجت عنه علاقة طردية بين توسّع استعمال الدارجة وتراجع استعمال الأمازيغية. أما بعد الاستقلال، فإن فرض الحِجر على الأمازيغية، أي منعها من ولوج المدرسة والإدارة والمحكمة والمسجد، ومؤسسات الدولة والفضاءات العامة، جعل الدارجة تستأثر وحدها بهذه الفضاءات، الشيء الذي أصبحت معه، عمليا، ودون أن ينص على ذلك دستور ولا قانون، هي اللغة الشفوية الرسمية للدولة، مع اقتصار رسمية العربية على ما هو كتابي فقط. وهذا ما مكّن الدارجة من الانتشار الواسع السريع، وأدّى، نتيجة لذلك، إلى تخلّي الناطقين بالأمازيغية، مُكرَهين، عن أمازيغيتهم واستعمال الدارجة بدلها، واضطرار حتى الذين لا يجيدون منهم الدارجة إلى تعلّمها لحاجتهم إليها باعتبارها اللغة الرسمية للتواصل الشفوي في إدارات الدولة ومؤسساتها وفي الفضاءات العامة، كما أشرت. وهو ما نجم عنه انحسار متزايد لرقعة استعمال الأمازيغية.
هكذا تحوّلت مؤسسات الدولة ومرافقها وإداراتها، والفضاءات العامة، إلى عامل فعّال للحدّ من استعمال الأمازيغية، و”فرض” استعمال الدارجة بصفتها لغة شفوية رسمية للدولة، كما قلت. وهذا ما تكشف عنه المقارنة بين أرقام الإحصاء العام للسكان لـ2004 و2014، حيث تبيّن «أن عدد المتحدثين بالأمازيغية انخفض، ما بين 2004 و2014، بمقدار 440027 من المغاربة، الذين كان من المفترض أن يكونوا في عداد مستعملي الأمازيغية في 2014، لو بقيت نسبة المتحدثين بهذه اللغة قارة كما كانت في 2004. طبعا هذا العدد (440027) الذي خسرته الأمازيغية ربحته الدارجة، التي ازداد عدد الناطقين بها بـ440027 مستعملا جديدا لها» (انظر موضوع: “الدليل الإحصائي أن الناطقين بالدارجة هم أمازيغيون”، ضمن كتاب “في العربية والدارجة والتحوّل الجنسي الهوياتي”).
لنفرض الآن أن إدارات الدولة ومدارسها ومحاكمها ومساجدها وكل مؤسساتها، وكذلك الفضاءات العامة، أي كل ما يشكّل “بؤرا” نشيطة لانتشار الدارجة ونقل “عدواها” إلى الناطقين بالأمازيغية، أُغلقت ومُنع السفر وأُوقفت الهجرة القروية، بسبب فرض الحِجر الصحّي، كما حصل ذلك طيلة ثلاثة أشهر كاملة منذ مارس 2020. فماذا ستكون النتيجة؟ سوف لن تجد الدارجة نفس الفرص للاستعمال والتوسّع والانتشار على حساب الأمازيغية، لأن الحِجر الصحّي يفرض عليها، هي أيضا، أن لا تلج المدرسة والمحكمة والإدارة والمسجد، وكل مؤسسات الدولة والفضاءات العامة بسبب إغلاق هذه المصالح والفضاءات، ووقف أنشطتها الإدارية والاقتصادية. وهو ما كانت تستأثر به لوحدها كلغة شفوية رسمية، كما أشرت، مع إقصاء الأمازيغية من نفس المؤسسات والفضاءات. وإذا كان انخفاض كثافة التواصل بالدارجة، طيلة مدّة الحِجر الصحّي، لن يجعل التواصل بالأمازيغية ينمو وينتشر، إلا أنه سيجعل عدد المتواصلين بها في استعمالهم الأسري اليومي قارا لا يتناقص ولا يتراجع، عكس ما يحصل في الظروف العادية التي تُستعمل فيها الدارجة، خارج أي حِجر صحّي، بكثافة كلغة شفوية رسمية داخل مؤسسات الدولة والفضاءات العامة، حيث يضطر الناطقون بالأمازيغية إلى استعمال الدارجة، مما يجعل العديد منهم يكتسبون عادة استعمالها حتى داخل أسرهم ومع أبنائهم، كما يفعل العديد من الموظّفين والأساتذة، وهو ما سيتناقص معه مستقبلا عدد مستعمليها حتى داخل هذه الأسر التي كانت لا تستعمل إلا الأمازيغية. يضاف إلى ذلك أن الحجر الصحّي يجعل التواصل، داخل الأسر الناطقة بالأمازيغية، كثيفا حيث إن بقاء الجميع بالمنزل، آباء وأمهات وأبناء، يكثّف من التواصل بالأمازيغية بين أفراد الأسرة، الذين ربما لم يكونوا يلتقون جميعهم إلا في أوقات قليلة يتحدّثون فيها بالأمازغية فيما بينهم، وذلك بسبب الخروج إلى الدراسة والعمل، والذي يعني، على هذا المستوى اللساني، الخروج من الأمازيغية والدخول إلى الدارجة.
ومدة ثلاثة أشهر من الحِجر الصحّي، كالتي عرفها المغرب من أواخر مارس 2020 حتى أواخر يونيو، لا تسمح لنا بإدراك أثرها الإيجابي على الأمازيغية، ولا باختبار صحة فرْضية هذا الأثر. ذلك أنه، بخصوص هذا المستوى اللغوي الذي نناقشه، لا يمكن أن تظهر نتائج مثل هذا الحِجر الصحّي لا بعد ثلاثة أشهر ولا بعد ثلاث سنوات… وإنما يحتاج ذلك إلى مدة أطول قد تفوق عشر سنوات على الأقل. والمثال على ذلك أنه لو كان هناك حِجر صحّي لعشر سنوات متتابعة ما بين 2004 و2014، لما خسرت الأمازيغية، خلال هذه الفترة حسب ما كشف عنه الإحصاء العام للسكان الذي أشرنا إليه، 440027 مستعملا لها تحوّلوا من ناطقين بالأمازيغية إلى ناطقين بالدارجة. هكذا يكون الحِجر الصحّي، عندما يُقرّر لمدة عشر سنوات أو أكثر (هذا مجرد افتراض للتوضيح ولا يعني أبدا أنه يمكن أن يتحقّق ويُطبّق)، ذا مفعول إيجابي على اللغة الأمازيغية، يظهر في تخفيف ـ أو حتى إلغاء ـ الحِجر المفروض عليها، والمساهمة بالتالي في الحفاظ على عدد الناطقين بها، ووقف عملية تناقصهم المطّرد، والتي تهدّد بموت الأمازيغية واختفائها.
واضح أن مدة من الحِجر الصحّي تقدّر بعشر سنوات أو أكثر، هي شيء خيالي لا يمكن أن يتحقّق ولا أن يُطبّق، كما أشرت. لكنها تبيّن أن الأمازيغية ستستفيد من مثل هذا الحِجر الافتراضي، بسبب كونها تعيش أصلا حِجرا متواصلا منذ الاستقلال، في الوقت الذي تتمتّع فيه الدارجة بحرية التنقّل والتجوال بدون قيود ولا شروط، وبدون أية مسافة من التباعد بينها وبين مؤسسات الدولة والفضاءات العامة، وبدون كمامة تعيقها عن الكلام بكل حرية وطلاقة. ولهذا عندما يُفرض الحِجر الصحّي تفقد الدارجة حرية تنقلها وتواجدها واستعمالها في إدارات الدولة ومؤسساتها، وفي الأسواق والفضاءات العامة، لأن هذه الأماكن تكون محظورة حسب قانون الطوارئ الصحية، وهو ما يجعل الأمازيغية تحافظ على وضعها مستقرّا ولا تتراجع بفعل استحواذ الدارجة على فرص الاستعمال في التواصل، التي كان من المفترض أن تستفيد منها الأمازيغية كذلك لولا حالة الحِجر اللغوي الذي فُرض عليها منذ الاستقلال.
الغاية من هذه الحالة الافتراضية ـ حتى لا أقول الخيالية ـ للحِجر الصحّي الذي يفيد الأمازيغية، هي إبرازُ الوضع المأساوي الذي تعيشه اللغة الأمازيغية: فلكي لا يتناقص عدد الناطقين بها، الأفيد لها أن يُفرض حِجر صحّي عام إلى أجل غير محدود، حتى يتساوى وضع الدارجة، التي ستتضرّر هي أيضا من الحِجر، حسب ما أوضحنا، مع وضع الأمازيغية التي كانت وحدها ضحيته. وهذا حلّ غير ممكن، بل هو خيالي، كما أشرت. فضلا على أنه يقوم على ما هو سلب ونفي، تماما مثل الأمية التي تحافظ على بقاء الأمازيغية، لكنها حل سلبي يقوم على انتفاء التعلّم، كما شرح ذلك الأستاذ حسن بنعقية في مقاله vive l analphabétisme.
ما يفيد إذن الأمازيغية هو الحلول الإيجابية وليس السلبية. والحل الإيجابي ليس هو تقييد حرية الدارجة بمناسبة الحِجر الصحّي، حتى لا تستفيد بما يُمنع على الأمازيغية بسبب وضعها الحِجري الذي توجد فيه دائما، وإنما هو رفع الحِجر على الأمازيغية لتتنقّل بحرية داخل إدارات الدولة ومدارسها ومؤسساتها ومساجدها وفي الفضاءات العامة، مع إلغاء أي تباعد لساني يفصل بينها وبين هذه الأماكن والفضاءات، وإنهاء عهد فرض الكمامة عليها لمنعها من الكلام بحرية وطلاقة. هذا التحرير للأمازيغية برفع الحِجر عليها، يخصّ شق استعمالها الشفوي. وحتى تتنقّل بحرية كاملة، لا بد من رفع الحِجر عليها، كذلك، بخصوص استعمالها الكتابي كلغة رسمية للدولة، مع ما يشترطه ذلك من تعميم تدريسها الإجباري والموحّد. فإذا كان الاستعمال الشفوي كافيا للحفاظ على الدارجة لأسباب سياسية، وهي كونها بمثابة لغة شفوية رسمية للدولة كما سبق أن شرحت، فإن الاستعمال الشفوي للأمازيغية لا يكفي لحمايتها والحفاظ عليها، لأسباب سياسية، كذلك، وهي الحِجر السياسي عليها ومنعها من ولوج إدارات الدولة ومؤسساتها، كما سبق أن شرحت. ومن هنا ضرورة التدريس الإجباري والموحّد للأمازيغية لاستعمالها الكتابي، الضروري لحماية استعمالها الشفوي.
لكن هذا التدريس، مع ما يستدعيه من رفع الحِجر عليها، يتوقف على توفّر الإرادة السياسة لذلك. هذه الإرادة لا تزال غائبة. وهذا ما يبيّن أن الأمازيغية لا تعاني إلا من مشكل واحد ووحيد، أصلي ومرجعي، وهو غياب الإرادة السياسية للنهوض بها. وعنه تنبثق كل المشاكل الفرعية الأخرى، التي تخص اللغة والثقافة والهوية والتاريخ، وإدماجها في التعليم والإعلام والقضاء والإدارة…
كاتب ومفكر وباحث ومناضل أمازيغي منحدر من منطقة الريف ومدير نشر جريدة تاويزا. ألف العديد من الكتب والمقالات التنويرية القيمة