حوار مع الباحث رشيد الحاحي حول كتابه الجديد: الأمازيغية والعيش المشترك


صدر لكم قبل بضعة أيام، كتاب جديد باللغة الفرنسية حول الثقافة الأمازيغية والعيش المشترك عن المنشورات الجامعية الأوروبية بألمانيا ، ماهي الرؤية التحليلية والمقاربة المعتمدة في هذا العمل التحليلي؟

نعم، الكتاب كما يتضح من عنوانه: الأمازيغية والعيش المشترك، دراسة في الثقافة والقيم، L’Amazigh et le vivre ensemble, Essai sur la culture et les valeurs هو دراسة فكرية تحليلية في بعض حوامل الثقافة الأمازيغية التي تعود جدورها إلى مئات السنين وفي الخطاب الثقافي الأمازيغي المعاصر، وانطلقت من معطى أساسي مفاده أن الأمازيغية، باعتبارها لغة وثقافة وخطاب هوياتي واجتماعي، كما يؤكد ذلك العديد من المتتبعين والفاعلين السياسيين والثقافيين، تحظى بحضور بارز كمكون حي ومتجدد وسؤال أساسي في سياق الديناميات الاجتماعية التي يعرفها المغرب، وكافة دول شمال إفريقيا، مند عشرات السنوات. وعملت على معالجة الإشكالية التي انطلقت منها وهي: كيف تعبر الأمازيغية من خلال تعابيرها الثقافية والاجتماعية التي يعود تاريخها إلى عدة قرون، ومن خلال خطابها الثقافي المعاصر، عن قيم العيش المشترك، وكيف تتمثلها وتمارسها في فضاء النقاش العمومي وعلاقاتها بالدولة وبقية المكونات الثقافية والسياسية، على امتداد مسار الاعتراف بالحقوق ودمقرطة الحياة العامة في المغرب؟

والمنهجية المعتمدة في الكتاب تزاوج بين المقاربة التحليلية والتأويلية، حيث عمدت إلى تحليل مجموعة من الأسناد والمواد الحاملة للثقافة والخطاب، بما في ذلك التراث القانوني الأمازيغي أو ما يعرف بالعرف، والممارسة الدينية في الوسط الاجتماعي الأمازيغي، من خلال منظور أنثربولوجي تأويلي يستند إلى العلوم الإنسانية الأنجلوسكسونية، ثم تحليل الخطاب الأمازيغي المعاصر من خلال بعض انتاجات الباحثين الفكرية والعلمية، والوثائق الأساسية التي ميزت المسار المطلبي والترافعي للفاعلين الأمازيغ مند أكثر من أربعين سنة، وكذا الانتاجات التشريعية المنظمة للعمل المدني الأمازيغي من خلال تحليل القوانين الأساسية لأربع منظمات كبرى وهي الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، الجامعة الصيفية، منظومة تماينوت والشبكة الأمازيغية من أجل المواطنة، وأنشطتها وممارساتها الثقافية والمدنية في فضاء المجتمع. كل هذا من طبيعة الحال مؤطر بإشكالية الانطلاق التي تهم سؤال القيم والمفاهيم المؤسسة بما في ذلك الثقافة، الهوية، التعدد، الاختلاف، التسامح، العيش المشترك.

ماهي بعض الممارسات الرمزية والمظاهر الثقافية التي تبرز حيوية حضور العيش المشترك في الثقافة الأمازيغية بالمغرب؟

العيش المشترك هو قيمة اجتماعية متأصلة في الثقافة الأمازيغية القديمة، وقد توقفت عند العديد من مظاهرها بما في ذلك التعايش الديني، التآزر والتضامن الاجتماعي، الإطار الإنساني للعقوبات العرفية…كما أن الخطاب الأمازيغي المعاصر الذي يعود إلى انتاجات وممارسات الجمعيات والفاعلين المدنيين والنخبة الفكرية يقوم بدوره على مجموعة من القيم الإنسانية والحقوقية الكونية، وعمل على إرسائها في فضاء النقاش العمومي والترافع الحقوقي والبحث العلمي عل امتداد قرابة نصف قرن، خاصة في مجالات العلوم الاجتماعية والانسانية وتناول قضايا اللغات والثقافة والهوية والتعدد والانفتاح…سواء فيما يتعلق بعمله من أجل الاعتراف باللغة والثقافة الأمازيغية والنهوض بهما، أو من خلال انخراطه في مسار التحديث القيمي ودمقرطة المجتمع والدولة.

لنتحدث عما يتعلق باختيارات الاشتغال على سؤال العيش المشترك، ثمة أسئلة وموضوعات أخرى تتعلق بمظاهر كونية مواربة لها صلة بالآخر في الثقافة الأمازيغية، ما هي الموجهات التي حكمت اختيار هذا الموضوع بالذات؟

فكرة الاشتغال على الأمازيغية والعيش المشترك روادتني مند عدة سنوات، وذلك لسببين أساسيين. كفاعل في المجتمع المدني الأمازيغي وباحث في الشأن الثقافي، لاحظت بأن التقدم في المسار الديمقراطي والحقوقي وتمكين الأمازيغي من وضع مؤسساتي جديد يمكن من النهوض بها وإدماجها في مجالات الحياة العامة، وكذا التقدم في مشروع التحديث وتطوير منظومة القيم، تواجهه عراقيل مرتبطة بمجموعة من التمثلات الخاطئة والرائجة في فضاء النقاش العمومي والمجتمع تنهل من إيديولوجيات مناوئة يغديها الصراع أو التنافس الذي تقوده الأطراف السياسية والثقافية المناوئة التي تلصق بالحركة الأمازيغية صفة العرقية وتهديد التماسك والوحدة الوطنية، لأنها ترى في تقدم المطالب الأمازيغية تهديد لمصالحها ومشروعها وكتلتها الاجتماعية المحافظة. ثم لكون الأمازيغية غالبا ما تختزل في المعطى اللسني والتراثي بمفهومه الجزئي، ويتم تجاهل والتغاضي على أنها أيضا ثقافة طلائعية في منظومتها القيمية وفي الخطاب الفكري الذي انتجته نخبتها العصرية التي استطاعت أن تساهم بقوة ومشروعية علمية وحجاجية في زحزحة اليقينيات التقليدية والخطابات الأحادية والاستيعابية والايديولوجية التي ورثها المغرب عن سياق الفكر القومي ومفهوم الدولة الوطنية لما بعد مرحلة الحماية، وذلك للانخراط في الحداثة ومنظومة الحقوق الكونية عبر تكريس قيم التعدد والتعايش والعيش المشترك، وبناء وإرساء النموذج المغربي التعددي الجديد.

لم تنفصل أسئلة هذا العمل وقضاياه عن الرؤى التي برزت معالمها الكبرى في كتابكم الأمازيغية والسلطة، وهي الرؤية التي تقوم على نحت منظور حداثي يؤسس لخطاب معرفي عن الهوية يستدمج العلوم الإنسانية والأنثروبولوجية الرمزية على وجه التحديد لبلورة مفهوم للهوية تعددي واختلافي، إلى أي حد استطاعت هذه الرؤية أن تؤمن حضورها في المتداول الثقافي وتجد لها صدى في تدبير التعددية اللغوية والثقافية بالمغرب؟

نعم، كتابي الأخير هو استمرار للاشتغال الفكري والنقدي الذي طبع كتبي السابقة، مند اشتغالي عل مفهوم الثقافة والهوية المتعددة في كتاب الأمازيغية والسلطة الصادر سنة 2009، وكذا في كتاب النار والأثر دراسة أنثربولوجية، وكتاب الأمازيغية والمغرب المهدور الصادرين سنتي 2006 و2011، وأيضا في كتاب الهوية وأسئلة الأمازيغية والاسلام السياسي والحريات الصادر سنة 2018، ويمكن القول أن الأطروحة الفكرية والنقدية التي عملت عليها تعزز مسار دمقرطة الشأن الثقافي واللغوي وإرسائه في المتداول الفكري والنقاش العمومي. ولا شك أن المجهودات والأعمال والبحوث التي أنجزها الفاعلون والباحثون الأمازيغ في هذا الإطار ومند عدة سنوات هي التي استطاعت أن تخلخل البرديكم الثقافي والإيديولوجي السابق، وأن تساهم في بروز اختيارات جديدة في السياسة العامة وخلال الاصلاح الدستوري، مما أفضى إلى ترسيم الأمازيغية والإقرار بتعدد مكونات الثقافة والهوية المغربية وفي صلبها الأمازيغية. هذا الورش السياسي والمؤسساتي يعرف الأن احدى مراحله الحاسمة بعد صدور القانونين التنظيميين لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وإحداث المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية بالجريدة الرسمية، وهذا يتطلب عمل كبير وكفاءات نزيهة لإرسائه في المستقبل.

درستم الخطاب الأمازيغي وانكشف تمجيده للعيش المشترك من خلال منطوقه ومفاهيمه التي يفكر بواسطتها في ما يستجد في الواقع ومن خلال امتداداته، غير أنه يلحظ أيضا أن بعض خطاباته تستند إلى مفهوم منغلق في تأويل الهوية وفي تأويل التسمية والسرديات المؤسسة للجماعة الثقافية الأمازيغية وقراءتها ما يفضي بها إلى توترات بين المعرفي والإيديولوجي، ألا ترى أن تأمين العيش المشترك يستلزم مراقبة منهجية حذرة لمفهوم الهوية؟

موضوع الهوية من أكثر المفاهيم التباسا لأنه تتجاذبه حقول معرفية كثيرة، وخطابات سياسية وايديولوجية متناقضة، وبقدر ما يمكن أن يكون مدخلا لبناء المجتمع الحديث وتنميته، بقدر ما يمكن أن يساهم في تأجيج التوترات والصراعات التي قد تكون قاتلة إذا ما لم يدبر سياسيا بشكل ديمقراطي وتعددي ومحرر، لهذا يتطلب مقاربة متعددة وحذرا منهجيا في تناوله. وعندما يتعلق الأمر بعلاقة الأمازيغية بالسؤال الهوياتي، فأعتقد أن الكتابات والوثائق الأساسية في مسار بناء الخطاب والوعي الأمازيغي، خاصة ميثاق اكادير سنة 1991 والبيان الأمازيغي سنة 2000، ومجمل الكتابات الفكرية والخطاب الثقافي والمعرفي الذي انتجه الباحثون يؤكد طابعه الريادي والنقدي في تصحيح العديد من الأوهام الايديولوجية ومسلمات البرديكم الاستيعابي السابق والتأسيس لفكر التعدد والاختلاف. ولكون سؤال العيش المشترك يتأسس على التصورات المتداولة حول قضايا الهوية والثقافة بشكل كبير، يمكن القول أن العمل الكبير الذي قامت بع الاطارات الأمازيغية في المغرب، للإقرار باللغة والثقافة الأمازيغية وإطارها الهوياتي كان السبب الرئيس في النقاش والخلخلة التي عرفتها منظومة القيم التقليدية واليقينيات الايديولوجية التي امتلكت شعور الفاعلين السياسيين والثقافيين في فترات سابقة وامتلكت كذلك الشعور العام في المجتمع.

لهذا من بين الخلاصات التي أكدت عليها في هدا الكتاب أن الخطاب والممارسة الأمازيغية يمثلان فعلا طلائعيا ومقوما أساسيا في بناء النموذج المغربي في الراهن والمستقبل.

بالرغم من الممكنات الإنسية وبالرغم مما تحفل به الثقافة الأمازيغية من أبعاد قيمية عميقة تحتفي في كثير من مظاهرها بالإنساني وبالعيش المشترك، إلا أن مسار الاعتراف بها والتفكير في استثمارها لم يتحقق بعد، ماهي برأيك الاعتبارات التي تجعل مجموعة من الخطابات تقاوم هذا المسعى؟

بكل اختصار، إن كان هناك من خطاب أو طرف لا زال يقاوم بعد كل هذا المسار الثقافي والحقوقي والمعرفي والدستوري، فلأنه ليس من مصلحته السياسية دمقرطة الشأن اللغوي والثقافي وتحديث المجتمع ومنظومة القيم، وبناء المواطنة والعيش المشترك، لأن الديمقراطية والتحديث وإرساء هذه القيم تهدد كتلته الاجتماعية المحروسة وإيديولوجيتة التي تتغدى على الصراع والنقيض.

زاوجت في هذا العمل بين دراسة تجليات حضور العيش المشترك في المظاهر والممارسات الثقافية الأمازيغية وبين إقامة حفريات في الخطاب الأمازيغي في المغرب الحديث- بوصفه خطابا سياسيا – من خلال بعض أسناده، وهي مظاهر وخطابات ظلت دوما موضوعا لتأويلات متصارعة ، يذهب بعضها إلى أن هذا الخطاب مفارق للوقائع الثقافية، هل كنت تمارس حقك في تأويل يروم في جانب منه استجلاء جذور هذا الخطاب وبيان أهميته في الراهن؟

لا أعتقد أن الخطاب مفارق بهذه الدرجة للممارسة والوقائع، بل حللت من خلال فصل في الكتاب جوانب هامة من حوامل هذا الحطاب والممارسات أيضا، والقيم التي يقوم عليها ويعمل من أجل إرسائها في فضاء المجتمع وفي النقاش العمومي، وفي السياسات والقوانين، وبالتالي لم أمارس حقي في التأويل فقط وفق ما يكفله البحث في العلوم الإنسانية، بل مارست أيضا حقي في التحليل واستجلاء المعنى، والترافع العلمي من أجل الموضوعية، ومضمون الكتاب ونتائجه تؤكد كل ما سبق أن ذكرته من قبل.

أجرى الحوار: أحمد بوزيد، ناقد

العالم الامازيغي


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments