خمور البشير و-آدابه العامة-


أقرّت الحكومة السودانية الانتقالية  مؤخرامشروعا لإلغاء ” قوانين النظام العام والآداب العامة بالولايات”، طبقا لما دعت إليه حركة الشارع السوداني وما ظلت تدعو إليه المنظمات الحقوقية والنسائية منذ أزيد من عشرين عاما.

قانون “النظام العام والآداب العامة” وضعه النظام العسكري الذي ترأسه عمر البشير منذ انقلابه على الحكومة الشرعية بالسودان عام 1989، وقام بذلك بإيعاز من التيار الإسلامي الذي دعمه في انقلابه وشاركه في الحكم لمدة ثلاثين سنة. وكان هذا “النظام العام” يمثل صورة واضحة لهيمنة الإسلاميين على دواليب الحكم ووصايتهم على المجتمع السوداني، حيث كان يعتمد  المرجعية الإسلامية ويوظف نصوصا دينية في شرعنة أشكال الحجر والمصادرة والعنف التي كانت تطال المواطنين السودانيين وخاصة من النساء، كما يشير سقوطه إلى انهيار حكم الإسلاميين وفشلهم في فرض إرادتهم على حركة الشارع السوداني.

وليست هذه هي المرة الأولى التي يستعمل فيها الجيش نصوص الدين الإسلامي لتبرير اضطهاده للمجتمع وإضفاء شرعية على اغتصابه للسلطة، فقد سبق للعسكري جعفر النميري الذي استولى بدوره على الحكم بانقلاب عسكري سنة1969  أن أقرّ في إطار خلافه مع اليساريين والقوميين “اعتماد الشريعة الإسلامية” سنة 1980، ما جعل التيار الإسلامي يسانده ويبرر جرائمه، بل إن مؤسسة الأزهر بمصر أصدرت آنذاك بيانا في التنويه به وبحرصه على “إحياء السّنة” و”محاربة البدع”.

كان نظام الآداب العامة الذي وضعه عمر البشير والتيار الإخواني السوداني شديد القسوة على الأفراد، وكان يتيح تقييد الحريات العامة والفردية وينص على عقوبات مشدّدة مثل الجلد بالسياط والسجن لفترات تصل لخمس سنوات وغرامات مالية كبيرة بحق نساء تمت إدانتهن مثلا بـ”حضور حفلات” أو بـ”ارتداء ملابس غير محتشمة” ويقصد بها اللباس العصري. كما فرض عقوبات مشددة على بائعي الخمور وشاربيها.

يفسر هذا لماذا شاركت النساء والشباب بشكل مكثف في التظاهرات التي اندلعت ضدّ نظام البشير في ديسمبر2018 ، والتي نجحوا في تحويلها من مظاهرات ضدّ ارتفاع أثمان الخبز إلى مطالبة مبدئية بإسقاط نظام البشير والإسلاميين، هؤلاء الذين وقفوا منذ البداية ضدّ حركة الشارع السوداني خوفا على مواقعهم في السلطة وعلى امتيازاتهم.

والملفت بعد سقوط نظام البشير واعتقاله، أن السلطات حجزت ببيته ـ بجانب الكميات الهائلة من الأموال من مختلف العملات الدولية ـ كميات هائلة من أنواع الخمور، التي كان يتمتع بمعاقرتها في الوقت الذي كان يجلد فيه ظهور الناس بتهمة شرب الخمور أو بيعها.

كما أن المحاكمات التي تجري حاليا ضد المتواطئين في نظام انقلاب عمر البشير تتم اعتمادا على نفس التهمة التي حاكم بها البشير والإسلاميون خصومهم السياسيين، وهي تهمة “تقويض النظام الدستوري وفقاً للقانون الجنائي لعام 1983”.

تضرّر السودان بشكل خطير من حكم العسكر والإسلاميين خلال الثلاثين سنة المنصرمة، والتي كان من أبرز نتائجها انقسام البلد إلى دولتين وتفقير فئات واسعة من الشعب السوداني بسبب الزيادات المتوالية في الأسعار، مع انهيار كبير في القيم والأخلاق وانتشار الفساد، وهجرة الأدمغة ذات الكفاءة، إضافة إلى إشعال الحروب وإشاعة الضغائن باستعمال التحريض الديني ما أدّى اقتراف مذابح شنيعة وإبادات جماعية في عدد من مناطق السودان مثل “دارفور”، وما نتج عنه إعلان المحكمة الجنائية الدولية بأن عمر البشير “مجرم حرب” مدان دوليا ينبغي اعتقاله عند أول فرصة سانحة يتواجد فيها خارج بلده.

بعد هذه التطورات الأخيرة، والتي من أهمها انتصار الحراك الشعبي السوداني، من المنتظر في حالة ما إذا لم تظهر مفاجئات غير متوقعة، أن يعرف السودان مرحلة جديدة يتم فيها إرساء منظومة قانونية وعدلية مطابقة للمرجعية الدولية لحقوق الإنسان، كما طالبت بذلك القوى الديمقراطية المتظاهرة، حيث عبرت  الحكومة الانتقالية التي تواجه الكثير من الصعوبات، عن استعدادها للانضمام إلى جميع الاتفاقيات الدولية ومن ضمنها اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة “سيداو”، ما سيمكن من تمكين المرأة السودانية من تبوأ موقع الصدارة الذي كانت فيه قبل أسلمة الدولة وأخونتها، كما عبرت الحكومة ذاتها عن إرادتها في إرساء أسس حكم مدني يساوي بين جميع أعضاء المجتمع ويحافظ على سلامتهم وحقوقهم بغض النظر عن اختلاف انتماءاتهم الدينية والعرقية واللغوية والإيديولوجية، وهو ما سيقوي بلا شك الوعي المواطن ضدّ النزعة الانقلابية والنزعة الدينية النكوصية اللتين أضاعتا على السودانيين عشرات السنين من تاريخهم الحديث.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments