هل الدارجة المغربية لهجة عربية؟


“بديهية كاذبة” أخرى:

اعتبار الدارجة المغربة ـ أو العامية المغربية ـ لهجة تابعة للغة العربية ومشتقة منها، يشكل إحدى “البديهيات الكاذبة” الأخرى التي تزخر بها الثقافة المغربية عندما يتعلق الأمر بموضوعات ذات علاقة باللغة والهوية والتاريخ. وهذه النظرة إلى الدارجة المغربية، ليست منتشرة في الأوساط الشعبية والحكومية فحسب، بل حتى في الأوساط “الأكاديمية” التي تؤكد أن عروبة وعربية الدارجة المغربية حقيقة “علمية”.

فعلى المستوى الشعبي، الجميع مقتنع أن الدارجة المغربية لغة “عربية” جاء بها العرب “الفاتحون” الذين استوطنوا المغرب، حتى أن الناس يسمونها “العربية” وليس حتى الدارجة.
وعلى المستوى الحكومي، يرى الحكام والمسؤولون السياسيون أن الأمازيغيين بالمغرب يشكلون “أقلية”، لأن غالبية المغاربة يتكلمون الدارجة المغربية التي هي لغة “عربية”، مما يعني أن غالبية المغاربة “عرب”. وهذا ما سبق للمندوبية السامية للتخطيط أن أعلنت عنه عندما نشرت (2007) إحصائيات تقول إن نسبة المتحدثين بالأمازيغية في المغرب لا تتجاوز الثلاثين في المائة (30%)، وهو ما يجعل منهم “أقلية” في مقابل أزيد من سبعين في المائة (70%) الذين يتحدثون بـ”العربية”، والذين يشكلون “الأغلبية” العربية”.

أما في الأوساط “الأكاديمية” و”العلمية” ـ وهذا ما يهمنا أكثر ـ فهناك العديد من “العلماء” و”الباحثين” و”المختصين” الجامعيين، الذين يردون على من يقول بأن اللغة العربية الفصيحة لغة نصف ميتة لأنها لا تستعمل في التواصل الشفوي ولا في الشارع ولا في البيت، وليست لغة أم لأحد، يردون بأن هذا الوضع ليس مقصورا على اللغة العربية وحدها، بل هو عام يميز جميع اللغات العالمية كالإنجليزية والإسبانية والفرنسية والألمانية. ويشرحون ذلك بالقول إن جميع اللغات تعرف مستوى عاميا وشعبيا خاصا بالتواصل الشفوي، ويمثل اللغة الدارجة المحكية، ومستوى آخر فصيحا وراقيا يستعمل في الكتابة والنشر ولغة المدرسة. فاللغة العربية الفصحى تمثل إذن هذا المستوى الفصيح والراقي المستعمل في التدريس والكتابة، بجانب مستواها العامي الدارج، المستعمل في التواصل اليومي وفي البيت والشارع.

وهكذا يكتب الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري، وهو رئيس جمعية اللسانيات بالمغرب، في مقال له بجريدة المساء، ليومي 30 أبريل وفاتح ماي 2012، بعنوان “التعدد اللساني والتحرر أولا”، (يكتب) بأن «لغة الشعب هي اللسان العربي بصيغه وتلويناته»، «حيث إن حوالي 95 في المائة ناطق باللسان العربي بتنوعاته» (انظر مناقشتنا لرأي الأستاذ الفاسي الفهري على الرابط).

ونقرأ في جريدة “التجديد” ليوم 13 /10/ 2009، وهي ترد على مقال بيومية “الصباح” يقول فيه صاحبه بأن اللغة العربية ليست لغة وطنية لأن لا أحد يتواصل بها في المغرب، نقرأ ما يلي: »أما عن حكاية كون أول ما يحتك به الطفل أمازيغي الأصول أو عربيها هو اللغة العربية المحكية، فهذا هو الوضع في كل دول العالم، فأول ما يتعلمه الفرنسي والإنجليزي والأمريكي هي اللغة المحكية، وهي حسب الباحث اللساني سيركوسوم (؟) اللغة النازلة التي تهيئ الشروط للغة العالية، فالدارجة هي المستوى الأدنى من اللغة العربية، وهو نفس الحال بالنسبة إلى اللغة الفرنسية واللغة الإنجليزية، والفرق الوحيد الموجود هو أن الفرنسيين كلهم يجمعون على أن اللغة الفرنسية هي اللغة الوطنية، ولا أحد منهم يطالب بأن تستبدل الفصحى الفرنسية بما يعرف عندهم بـ”لاركو”«.

ونفس الشيء يعيد تأكيده، وبكل وثوق “علمي” كما لو أن الأمر يتعلق بمجرد بديهية معروفة وثابتة، السيد موسى الشامي، الذي هو رئيس “للجمعية المغربية لحماية اللغة العربية”، عندما يقول: « بداية، لابد من التأكيد على شيء من الأهمية بمكان، هو أن الدارجة المغربية، كما يمكن أن يؤكده علماء اللغة والمتخصصون اللسانيون في الدراسات الدكلوسية، تمثل المستوى “المتدني” للغة العربية، وأما المستوى “العالي” فهو اللغة العربية المنقحة التي ننعتها بـ”الفصحى” أو” الفصيحة “»؛ «هذان الوجهان لعملة واحدة تتميز به جميع اللغات الحية». «الطفل الفرنسي، على سبيل المثال، عندما يلج المدرسة لأول مرة، لا يملك إلا “الدارجة” الفرنسيةLa langue familière ، […] وهي أداة لغوية يطلب من الطفل الفرنسي التخلي عنها عند ولوجه المدرسة». (من مقال له منشور بتاريخ 29 مارس 2013).

هكذا تتم “البرهنة “العلمية” إذن على أن:

ـ اللغة العربية الفصحى ليست لغة متعالية عن الواقع لأنها خاصة بالكتابة والمدرسة فقط، بل هي، مثل كل اللغات، تستعمل في التواصل الشفوي والتخاطب اليومي من خلال مستواها العامي الذي هو الدارجة المغربية، التي تمثل لغة الأم بالنسبة للغة العربية الفصحى، مثل ما هو عليه الأمر فيما يخص المستوى العامّي الذي يمثل لغة الأم بالنسبة للغة الفرنسية الفصحى.

ـ الدارجة المغربية هي إذن لغة عربية لأنها تمثل المستوى العامي والدارج لهذه اللغة، تماما مثل مستويات الاستعمال العامّي والدارج بالنسبة للفرنسية أو الإسبانية أو الإنجليزية أو الألمانية…

وما يهمنا في هذه “البرهنة” العملية” “الأكاديمية” هي نتائجها السياسية والهوياتية: فبما أن غالبية المغاربة يتكلمون الدارجة المغربية، وبما أن هذه الدارجة هي لغة عربية، فالنتيجة، بكل بساطة، هي أن المغاربة هم من أصول عربية لأنهم يتكلمون نفس اللغة التي حملها معهم أجدادهم “الفاتحون” من شبه الجزيرة العربية، ولا زال أحفادهم يحتفظون عليها ويستعملونها كما يحتفظ كل إنسان على اللغة التي اكتسبها من أسرته ويستمر في استعمالها كلغة أم. فما حصل للمغرب، بناء على هذا الاستدلال، يشبه إذن، على المستوى اللغوي والعرقي، ما حصل بالولايات المتحدة حيث إن لغة الأميركيين هي اللغة الإنجليزية التي حملها معهم أجداد هؤلاء عندما استوطنوا أميركيا. أن يكون المغرب إذن بلدا “عربيا” تحكمه دولة “عربية” ذات سلطة “عربية”، أمر طبيعي جدا ومنسجم مع قوانين الطبيعة والتاريخ.

نلاحظ إذن كيف أن اللغة هنا ـ كما هي دائما في الحقيقة ـ رهان سياسي بامتياز. فهي التي تبرر وتفسر، بالنسبة لحالة المغرب، انتماءه “العربي”. لكن ماذا ستكون النتيجة، على المستوى السياسي والهوياتي، إذا ثبت علميا ـ بدون مزدوجتين هذه المرة ـ أن لغة غالبية المغاربة، أي الدارجة المغربية، ليست لغة عربية، بل هي نظام لغوي آخر مستقل وقائم بذاته؟ ستكون النتيجة، استنادا إلى نفس المنطق اللغوي الذي جعل من المغرب بلدا “عربيا”، أن هذا الأخير ليس عربيا لا في هويته ولا في لغته.

هل الدارجة المغربية هي المستوى العامّي للعربية الفصحى؟

إذا كان عاديا أن العامّة، من غير المتعلمين والمثقفين والمختصين، يعتقدون، كشيء بديهي كما سبقت الإشارة، أن الدارجة المغربية لهجة عربية، بناء على أن جزءا هاما من الكلمات المستعملة في هذه الدارجة هو من أصول معجمية عربية، فلا نفهم كيف أن “العلماء” و”اللسانيين” و”المختصين”، من الذين أشرنا إليهم، يتبنون هم أيضا نفس الموقف العامّي الذي ينظر إلى الدارجة المغربية على أنها لهجة عربية، بناء على القرابة المعجمية بين الاثنين.

لكن الملاحظ أن هؤلاء “العلماء” و”اللسانيين” و”المختصين”، الذين يقولون بأن علاقة الدارجة المغربية بالعربية الفصحى هي كعلاقة المستوى العامّي للغة الفرنسية، المستعمل في التداول الشفوي في البيت وفي الشارع وفي السوق، باللغة الفرنسية الفصيحة التي تشكل الأصل لهذا المستوى العامّي، (الملاحظ) أنهم لا يقدمون أية أمثلة توضيحية من “الدارجة” الفرنسية، ولا من الدارجة المغربية، حتى تمكن المقارنة بين “الدارجتين” في علاقتهما باللغتين الفصيحتين المفترض أن هاتين “الدارجتين” تنتميان إليهما وتتفرعان عنهما، وذلك بهدف إقناعنا بالحجة والدليل على أن الدارجة المغربية هي فعلا نوع من الاستعمال العامّي الشفوي للعربية الفصحى. إن هؤلاء “العلماء” يتهربون في الحقيقة من مثل هذه الأمثلة التوضيحية، لتبقى أحكامهم واستنتاجاتهم مجرد انطباعات عامّية وآراء جاهزة ومسبقة حول اللغة العربية، بعيدة عن الوقائع التجريبية التي قد تنفيها أو تؤكدها.

لكن نحن سنلجأ إلى مثل هذه الأمثلة لنوضح بها ما إذا كانت الدارجة المغربية تمثل بالفعل المستوى العامّي الشفوي للعربية الفصحى، كما نجد ذلك في الفرنسية مثلا.
لنأخذ كلمات من “العامّية” الفرنسية: flic, trouille, dingue, cinglé, fric, mec, trimer, gonzesse, foutre, que dalle… ونستخدمها ضمن جمل وتعابير كما هي مستعملة في الفرنسية:

“Les flics arrivent”, “il a la touille”, “il est dingue”, “il est cinglé”, “il a beaucoup de fric”, “tu as vu le mec dont je t’ai parlé?”, “il trime toute la journée”, “il a rencontré une gonzesse”, “Qu’est-ce que tu fous?”, “J’ai compris que dalle”.

ماذا نلاحظ وماذا نستنتج؟ نلاحظ أن هذه التعابير هي لغة فرنسية، مائة في المائة (100%)، في تراكيبها وقواعدها النحوية والصرفية والإملائية. كل ما هنالك أن الكلمات “العامّية”، التي تتضمنها هذه التعابير، غير مستعملة في لغة المدرسة والكتابة الأدبية الراقية. المهم أن هذه التعابير، التي تستعمل مفردات معجمية “عامّية”، هي لغة فرنسية وليست شيئا آخر غريبا وأجنبيا عن هذه اللغة. وهو ما يستنتج منه “الباحثون” و”اللسانيون” و”المختصون” الذين أشرنا إليهم، أن هذا الاستعمال العامّي هو المستوى التواصلي، الدارج والشعبي، لنفس اللغة التي تملك دائما مستوى آخر أدبيا وراقيا خاصا بالكتابة والمدرسة. هناك إذن لغة واحدة بمستويين اثنين من الاستعمال حسب الحاجة والسياق. وهذا صحيح ـ وصحيح جدا ـ بالنسبة للغة الفرنسية كما نلاحظ من خلال الأمثلة التي ذكرناها. فهل يصدق نفس الشيء كذلك على اللغة العربية بالمغرب كما يؤكد ويريد مجموعة من “العلماء” و”الباحثين” و”المختصين”؟

1 ـ لنأخذ أمثلة من الدارجة المغربية، المفترض، قياسا على اللغة الفرنسية، أنها تمثّل المستوى العامّي للغة العربية الفصحى:

ـ “أش مشا لك فيه؟”،
ـ “هذا العسل جاري”،
ـ “طار ليه النعاس”،
ـ “لْحم خْضر”،
ـ “شبع لْحوت على راسو”.
ـ “ضربو لْحم ما بقى كاع ياكلو”،
ـ “كلا لورث ديال خواتاتو”،
ـ “الله إخلّيك مشحال الساعة؟”
ـ “طيّب لو الراس بالهدرا”

ـ ….

نلاحظ أن هذه التعابير تتكون كلها من كلمات عربية في أصلها اللغوي (تعمدت اختيار أمثلة تتضمن هذه المفردات العربية مع أنه كان يمكن أن تكون المفردات غير عربية أصلا ـ مثل: نوض، دير، تنهلا، سكّد، مشحال، سقْسي، سِفط… إلخ ـ، والتي يتشكل منها جزء من معجم الدارجة المغربية). لكن هل هي تعابير عربية أيضا مثل مفرداتها المعجمية؟
ـ فعبارة “أش مشا لك فيه؟”، والتي تعني حرفيا: “ماذا مشى لك فيه؟”، ليس لها أي معنى في العربية الفصحى، ولا يمكن أن نفهم أن المقصود منها هو: “لماذا تتدخل في شؤونه؟”، “ما الذي يهمك من أمره؟”، لأن كلمة “مشى” لا تستعمل بهذه الصيغة (مشى لك فيه) في اللغة العربية.

ـ عبارة “هذا لعسل جاري” لا تعني في الفصحى أنه سائل ومائع كما يفهم ذلك من هذا التعبير الدارج، بل تعني “أنه يجري”، وهو ما لا معنى له في اللغة العربية لأن العسل لا “يجري”.

ـ عبارة “طار ليه نعاس” لا تعني في اللغة العربية “أصابه الأرق” كما يفهم ذلك من التعبير الدارج، بل تعني “طار له النعاس، النوم”، وهو ما لا معنى له في اللغة العربية لأن النوم لا “يطير”.
ـ عبارة “لحم خضر”، التي تعني في الدارجة “اللحم النيء”، لا معنى لها في اللغة العربية لأن اللحم لا يكون “أخضر”.

ـ عبارة “شبع لحوت على راسو”، التي تعني في الدارجة “أكل كثيرا من الحوت حتى شبع حد التخمة”، لا معنى لها في العربية لأن الشبع لا يكون “على الرأس”.

ـ عبارة “ضربو لحم…”، والتي تعني أنه “مل” اللحم لكثرة ما أكل منه، لا معنى لها في اللغة العربية لأن اللحم لا “يضرب”.

ـ عبارة “كلا لورث ديال خواتاتو” (حرفيا: أكل إرث أخواته) لا معنى لها كذلك في اللغة العربية لأن الإرث لا يؤكل وإنما يُنهب ويُستولى عليه.

ـ عبارة “الله إخلّيك..” (جزاك الله، من فضلك) قد تعني في العربية الفصحى عكس معناها المقصود في الدارجة، إذ قد يفهم منها “أن الله تخلى عنك”.

ـ عبارة “طيّب لو الراس بالهدرا” (حرفيا: طبخ وأنضج له الرأس بالكلام) لا معنى لها أيضا في اللغة العربية، لأن الرأس لا يطبخ ولا ينضج بكثرة الكلام، وإنما قد يصاب بالصداع والألم…

والأمثلة على هذا النحو قد لا تعد ولا تحصى لكثرتها ووفرتها.

واضح إذن أن هذه التعابير للدارجة المغربية لا معنى لها في اللغة العربية رغم أن مفرداتها المعجمية عربية. لا معنى لها لأنها ترجمة حرفية لمفردات أمازيغية لها مدلولها ضمن القواعد النحوية والتركيبة الخاصة باللغة الأمازيغية. فلا يكفي أن تكون الكلمات المعجمية من أصل عربي لتكون اللغة التي تستعمل تلك الكلمات عربية، وإلا لكانت اللغة الفارسية لغة عربية لأن أكثر من 60% من معجمها اللغوي يرجع إلى اللغة العربية، فضلا عن استعمالها الحرف العربي في الكتابة. ومع ذلك فالفارسية تنتمي إلى فصيلة اللغات الهند أوروبية عكس العربية التي تنتمي إلى اللغات السامية. بل إن لغة القرآن نفسه ستكون، حسب هذا المنطق “المعجمي” العامّي، لغة غير عربية لأن جزءا هاما من معجمها من أصول سريانية آرامية، حتى أن أحد المختصين في لغات الشرق الأوسط القديمة، “كريستوف لوكسنبرغ”، يرى أنه لا يمكن فهم النص القرآني إلا انطلاقا من اللغة السريانية والآرامية، كما بيّن ذلك في كتابة “قراءة سريانية آرامية للقرآن” الذي صدر بالألمانية سنة 2000 (الترجمة الإنجليزية للكتاب: “The Syro-Aramaic Reading of the Koran: A Contribution to the Decoding of the Language of the Koran” متوفرة على شبكة الأنترنيت). ومع ذلك لا أحد يشكّك، بما فيهم “لوكسنبرغ” نفسه، في حقيقة أن القرآن نزل بلسان عربي. فما يصنع اللغة ـ وهذا ما يعرفه جيدا “العلماء” و”المختصون الذين “برهنوا” على أن الدارجة المغربية لغة عربية ـ ليست كلماتها المعجمية، بل استعمال هذه الكلمات في تعابير وتراكيب بطريقة خاصة تعطي لتلك اللغة تفردها وخصوصيتها. فلو كانت اللغة تساوي المفردات التي تستعملها تلك اللغة، لكان يكفي لتملّك هذه اللغة وإجادتها اقتناء معجمها من إحدى مكتبات الحي، لنصبح متمكنين من هذه اللغة ومتقنين لها.

2 ـ في “عامّية” اللغة الفرنسية، أي تلك المستعملة في البيت والشارع والمعمل والميترو، حروف المعاني، كأدوات الربط والاستفهام والنفي، وتلك الدالة على الزمان والمكان…، تنتمي إلى اللغة الفرنسية الفصيحة، كما رأينا في الأمثلة السابقة، مما يجعل الاستعمال العامّي في الفرنسية مقصورا على كلمات معجمية ولا يمس إطلاقا جوهر اللغة التي هي تلك الأدوات التي تركّب بها تلك الكلمات.

أما في الدارجة المغربية، فكل حروف المعاني، من أدوات الربط والاستفهام والنفي وتلك الدالة على الزمان والمكان…، هي حروف وأدوات لا وجود لها في العربية الفصحى. مما يجعل من الدارجة لغة لا تربطها أية علاقة نحوية وتركيبية بالعربية الفصحى. لنتأمل الأمثلة التالية:

ـ “إلا جاء قل لو يدخل” (إذا جاء قل له يدخل).
ـ ما ضبرتوش” (لم أضربه).
ـ “غادي نجي في لعشيا” (سأجيء في المساء، العشية).
ـ “ملّي يوصل عيّط لي” (عندما يصل ناد علي)
ـ “باش ضربتو” (بماذا ضربته).
“علاش ضربتو” (لماذا ضرته)
ـ “شكون دخل”؟ (من دخل؟).
“رّجل لّي دخل” (الرجل الذي دخل).
ـ “واش جا؟” (هل جاء)؟
ـ “مشحال عندو فلوس”؟ (كم عنده من نقود؟).
ـ “أش هاذ شّي؟” (ما هذا؟)
ـ “واش وصل؟” (هل وصل؟)
ـ “بغيتُ يحضر دابا” (أريده أن يحضر الآن، حالا)

نلاحظ إذن أن هذه الأدوات النحوية وحروف المعاني، المستعملة في الدارجة المغربية، غير معروفة ولا مستعملة في العربية الفصحى. وهو ما يجعل من هذه الدارجة لغة مختلفة جذريا عن اللغة العربية، ومستقلة عنها وقائمة بذاتها لها قواعدها النحوية الخاصة بها، عكس “العامّية” الفرنسية التي هي فعلا جزء من اللغة الفرنسية، لأنها تخضع لنفس قواعد الفرنسية الفصيحة، وتستعمل نفس الأدوات وحروف المعاني التي تستعملها هذه اللغة في مستواها الفصيح.

3 ـ على غرار الأمازيغية، وعكس العربية الفصحى، لا يوجد في الدارجة المثنى، فقط المفرد والجمع.

4 ـ ثم إن المستوى العامّي للغة ما ينشأ تحت إكراهات التواصل بنفس اللغة وداخلها، عند فئات اجتماعية أو جماعات مهنية معينة. فالشرط الأول إذن لظهور هذا المستوى العامّي داخل نفس اللغة، هو استعمال هذه اللغة في التواصل والتخاطب. والحال أن اللغة العربية لا تستعمل في التخاطب منذ أكثر من عشرة قرون. وهو ما يستحيل معه أن يكون لها مستوى عامّي ينمو بجانبها ويكون جزءا منها ينتمي إليها.

5 ـ ولأن المستوى العامّي ينشأ داخل نفس اللغة كنتيجة لاستعمالها في التخاطب والتواصل، كما قلت، فهو إذن جزء من هذه اللغة. ولهذا نجد المفردات، الممثلة لهذا المستوى العامّي، تُدرج، عندما يصبح استعمالها شائعا ومنتشرا، في غالبية المعاجم الفرنسية بما فيها معجم الأكاديمية الفرنسية، مع الإشارة إلى أنها تنتمي إلى الاستعمال العامّي الذي ترمز تلك المعاجم إلى نوعه كما يلي: fam (familier شائع)، Vulg (vulgaire سوقي)، Pop (Populaire شعبي)، Arg (عامّية من نوع “لاركو”argot )، Trivial (ساقط)…


وهذا تأكيد أن الفرنسية “الدارجة”، أي المستعملة في البيت والشارع والسوق…، هي بالفعل جزء من اللغة الفرنسية، وتمثل مستواها العامّي. أما في اللغة العربية، فلا نجد أية كلمة من الدارجة، من غير التي يكون أصلها عربيا، مدرجة في أي معجم للغة العربية، مع الإشارة إلى أنها تنتمي إلى الاستعمال العامّي الدارج كما في المعاجم الفرنسية.

فلنبحث مثلا عن الكلمات الدارجة التالية: “دير” (افعل)، “نوض” (انهض، قم)، “سقسي” (اسأل)، “سفط” (أرسل)، “مشحال” (كم)، “شكون” (من؟)، “باش” (بماذا؟)، بزّاف” (كثيرا)، “السرجم” (نافذة)، “خمّم (فكر، تأمل)، “حنزز” (انظر مليا، حدّق فيه)، “نص” (نصف)، “جيب” (احمل إلى هنا)، “أش…؟” (ماذا؟)، “واش…؟” (هل؟)، “دابا” (الآن)… فلا نجدها في أي معجم للغة العربية، عكس “الدارجة” الفرنسية. لماذا؟ لأن الدارجة المغربية هي، بكل بساطة، لغة أجنبية عن اللغة العربية ولا تنتمي إليها كمستوى عامّي لها، كما يزعم المدافعون عن “عروبة” الدارجة المغربية.

يتساءل السيد موسى الشامي، بنفس المقال المشار إليه، متحديا من يطالب باستعمال الدارجة المغربية في المدرسة: «لماذا لا تدرس فرنسا دارجتها لأبنائها…؟». السبب بسيط وواضح، وهو أن “الدارجة” الفرنسية ليست لغة قائمة بذاتها ومستقلة عن اللغة الفرنسية المعروفة، بل هي جزء منها تابع لها كما شرحنا. في حين أن الدارجة المغربية لغة قائمة بذاتها ومستقلة عن العربية الفصحى، كما بينا. وبالتالي، فهي لغة قابلة لأن تكون لغة مدرسية إذا تم تأهيلها لذلك ووفرت لها الشروط لتقوم بهذه الوظيفة. السيد الشامي، بطرحه لهذا السؤال الذي يقيس فيه “الدارجة” الفرنسية على الدارجة المغربية، يرتكب خطأ فادحا ينمّ عن جهل بحقيقة اللغة وطبيعتها ومكوناتها، وبواقع اللغة الفرنسية ـ رغم أنه أستاذ لها ـ كلغة حية تستعمل في الكتابة وفي التخاطب، عكس العربية التي تستعمل في الكتابة فقط، كما يرتكب خطأ آخر عندما يستعمل آلية القياس، في هذه الحالة الخاصة بالمقارنة بين “الدارجة” الفرنسية والدارجة المغربية، بشكل خاطئ وغير سليم لأنه لا قياس مع وجود الفارق.

ولأن “دارجة” اللغة الفرنسية هي جزء من هذه اللغة، كما أوضحنا، فإن المدرسة بفرنسا لا تحارب هذه الدارجة التي يتقنها الطفل/ التلميذ، لتستبدلها بلغة فرنسية أخرى لا يعرفها، كما يقول السيد الشامي عندما كتب: «هذه الدارجة الفرنسية[…]، و هي أداة لغوية يطلب من الطفل الفرنسي التخلي عنها عند ولوجه المدرسة». بل تنطلق المدرسة الفرنسية من لغة الطفل /التلميذ، أي من هذه “الدارجة” التي يجيدها ويعرفها، لتنميها وتطورها وتنتقل بها من المستوى الشفوي الدارج إلى المستوى الكتابي المدرسي. فالجديد الذي يتعلمه الطفل /التلميذ الفرنسي في المدرسة، في ما يخص اللغة، ليس لغة لا يعرفها ولا يستعملها، كما هو حال الطفل /التلميذ المغربي، بل يتعلم فقط الكتابة بلغة هو أصلا يعرفها ويتواصل بها، مع ما تقتضيه الكتابة من قواعد وشروط قد يُستغنى عنها في الممارسة الشفوية لنفس اللغة.

السيد الشامي يستعمل مرة أخرى آلية القياس بشكل فاسد وغير ملائم: فلأن المهمة الأولى للمدرسة بالمغرب هي محاربة ومحو لغة الأم لدى الطفل /التلميذ وإحلال محلها لغة جديدة وأجنبية عن هذا الطفل /التلميذ، وهي العربية الفصحى، يعمم السيد الشامي، عن طريق قياس خاطئ، هذا الواقع المدرسي، غير التربوي، على واقع المدرسة الفرنسية في علاقتها بلغة الطفل/التلميذ. وهو تعميم مغلوط لأنه نتيجة لقياس هو نفسه مغلوط.

6 ـ والدليل الآخر أن الدارجة المغربية لغة أجنبية ومستقلة عن اللغة العربية، وليست تابعة لها ولا متفرعة عنها، هو أن الأمي يجيد التحدث بالدارجة المغربية رغم أنه يجهل العربية الفصحى جهلا تاما. وهذا يعني أن وجود أو غياب العربية لا تأثير له على وجود الدارجة، مثلما لا تأثير لذلك على وجود الإسبانية أو الفرنسية أو الروسية… لأن هذه لغات مستقلة عن العربية. الدارجة هي إذن لغة مستقلة عن العربية، تماما مثل الإسبانية أو الفرنسية أو الروسية…، لأنها لا تحتاج، لبقائها ووجودها واستمرار استعمالها، إلى الأدوات النحوية والتركيبية والصرفية الخاصة بالعربية (أدوات الربط والاستفهام والنفي والزمان والمكان وصيغ تصريف الأفعال…)، والتي إذا غابت العربية، كما عند الأميين، غابت معها هذه الأدوات كجزء منها، فتتعطل بسبب هذا الغياب الدارجة لغياب تلك الأدوات الضرورية لها كلغة. أما وأن الدارجة لها أدواتها النحوية والتركيبية والصرفية الخاصة بها كما رأينا، فهي إذن في غنى عن العربية، مثلما أن الإسبانية أو الفرنسية أو الروسية… في غنى عنها كذلك. أما المفردات المعجمية ذات الأصل العربي، فقد أصبحت هي نفسها جزءا من معجم الدارجة، تحيا معها سواء كانت العربية حية أو ميتة، مثلما أن العربية هي نفسها تضم مفردات للغات ماتت وانقرضت دون أن يؤدي ذلك إلى موت وانقراض العربية التي تستعمل تلك المفردات.

وهذا ما لا يصدق على “الدارجة” الفرنسية ـ المقصود الفرنسية المستعملة في البيت والشارع والسوق، وعند الحلاق والخضّار… ـ لأنها هي بالفعل جزء من اللغة الفرنسية، وليس لها وجود مستقل عنها. ولهذا لا يمكن لمن يجهل اللغة الفرنسية أن يستعمل مستواها العامّي (“الدارجة” الفرنسية)، أي التخاطب بها في البيت والشارع والسوق والمقهى…

فإذا افترضنا مثلا أن الفرنسية ماتت وانقرضت، ستصبح “العامّية” الفرنسية، عكس ما رأيناه في علاقة الاستقلال بين الدارجة والعربية، في حكم الميتة والمنقرضة تبعا لموت وانقراض اللغة الأم. لنأخذ مثال الكلمة الفرنسية العامّية (môme طفل). فإذا اختفت اللغة الفرنسية، ستصبح هذه الكلمة عديمة الجدوى والغاية، لأنه لا يمكن استعمالها في أية جملة مفيدة في غياب الأدوات النحوية والتركيبية والصرفية للغة الفرنسية الأم. فإذا أردنا ان نستعملها في جمل، فلا بد أن يكون ذلك في صيغ من قبيل: Voilà le môme, le môme arrive, ce môme crie, le môme est malade, la mère du môme…، أي أننا نحتاج إلى استخدام الأدوات التركيبية والنحوية والصرفية الخاصة باللغة الفرنسية لإمكان استعمال هذه المفردة العامّية استعمالا مفيدا ومفهوما. في حين أن الدارجة المغربية هي في غنى عن استعمال الأدوات التركيبية والنحوية والصرفية الخاصة باللغة العربية، لأنها تملك أدواتها الخاصة بها، مما يجعل منها لغة مستقلة عن العربية كما سبق أن شرحنا.

الخلاصة أن الاختلاف بين الدارجة المغربية والعربية الفصحى اختلاف جوهري، يمس التراكيب وحروف المعاني وكل النظام النحوي والصرفي، ولا يقتصر على مجرد المفردات المعجمية كما في علاقة “العامّية” الفرنسية بالمستوى المدرسي والأكاديمي الذي تستعمل فيه هذه اللغة. وهذا يبيّن أن الدارجة المغربة لغة قائمة بذاتها ومستقلة عن العربية الفصحى، وليست نوعا من “العامّية” التابعة لها كما تتبع “العامّيةُ” الفرنسية اللغةَ الفرنسية الفصيحة. فالفرق إذن بين الدارجة والفصحى لا علاقة له بالفرق الموجود، في كل اللغات التي تعرف الكتابة، بين الاستعمال الشفوي والاستعمال الكتابي داخل نفس اللغة، حيث تمثل الكتابة مستوى أعلى وأرقى لممارسة اللغة من حيث اختيار الكلمات وصياغة الأسلوب، كما نجد ذلك حتى في اللغة العربية نفسها، إذ يظهر الفرق واضحا بين خطاب شفوي مرتجل لكن بلغة عربية فصحى، وبين نص مكتوب روعيت فيه جمالية الأسلوب وانتقاء الألفاظ. وإنما يتعلق الأمر، في العلاقة بين الدارجة والعربية الفصحى، ليس بمجرد فرق في الألفاظ والأسلوب، بل بلغتين مختلفتين تماما ومستقلتين إحداهما عن الأخرى.
كيف نصنف الدارجة المغربية؟


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments