نزعات اختزالية ضدّ الديمقراطية
يذكرني النقاش الدائر حاليا بالمغرب حول القانون الجنائي ومادة “الإثراء غير المشروع”، بمعضلة ما زالت تعرقل التطور الديمقراطي في بلادنا، وهي مشكلة اختزال الديمقراطية في عنصر معزول من هنا أو هناك، مع التحفظ على باقي العناصر التي لا يقوم ذلك العنصر نفسه إلا بها.
فعندما قام السيد مصطفى الرميد وزير العدل السابق بوضع مادة ضدّ “الإثراء غير المشروع” ضمن مشروع القانون الجنائي، قام بالتسويق والدعاية لعمله على أنه إجراء ديمقراطي يتعلق بالشفافية في تدبير المال العام، وهو أمر لا خلاف فيه، لكن الوزير نفسه عمل بشكل مهووس على إقبار أي نقاش حول الحريات، التي استثناها من المناقشة والتعديل، وهو اليوم مع حزبه “الإخواني” يعتبر نفسه حاملا لمشعل الديمقراطية ضد “الإثراء غير المشروع”، مع العلم أنه يسعى إلى تحويل البلد إلى سجن كبير يعيش فيه الناس تحت وصاية النزعة المحافظة التي تشيع النفاق وتتستر على أمراض المجتمع التقليدي وتكرس التخلف والانحطاط القيمي. هل نحن مجبرون على مقايضة “الإثراء غير المشروع” بحرياتنا ؟ طبعا لا، فالديمقراطية وحقوق الإنسان كلّ غير قابل للتجزيء بمنطوق الدستور.
هذه الفكرة حاولنا مرارا شرحها للرأي العام ومن خلال ذلك لنخبة الحزب الأغلبي في الحكومة، الذي بذل جهودا جبارة لعرقلة صدور قوانين متقدمة خلال الولاية السابقة واللاحقة، حيث يرفع شعار “محاربة الفساد” دون أن يفعل شيئا في الواقع من أجل ذلك، ولكنه في نفس الوقت لا يتسامح مع حقوق الإنسان التي مازالت مصدر إزعاج كبير له، مع العلم أنه لا تقدّم لبلد يزعم محاربة “الفساد” المالي، بينما يعامل مواطنيه باحتقار وحرمان من أبسط حقوقهم وحرياتهم الأساسية.
إن أصل النزعات الاختزالية للديمقراطية هو التحفظ على قيمها، حيث كان التيار الإسلامي يعتبر الديمقراطية “كفرا” وخروجا من الدين، غير أنه سرعان ما قام بـ”مراجعة” مراوغة اضطرته إليها ظروف اشتغاله في مجال السياسة داخل المؤسسات، فقام بتعويض تكفير الديمقراطية بنظرة اختزالية يختار بموجبها بعض عناصرها ويغضّ الطرف عن بعضها الآخر، وهكذا صرنا نسمع من يقول إنّ الديمقراطية هي فقط “صناديق الاقتراع”، وسمعنا من يختزل الإصلاح في “محاربة الفساد والرشوة”، واختزال العدل في “استقلال القضاء”، واختزال الأخلاق في مظاهر التديّن والتشدّد ضدّ مسلسل التحديث، واختزال الحريات في “زواج المثليين” وهكذا ..
إن هذه الأنواع من المواقف الاختزالية متعمّدة، وغرضها طمس المشروع الديمقراطي الذي لا يقوم إلا بتكامل أسسه وأركانه، السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والقيمية والبيئية، والتي ينبغي أن تنبني جميعها في الوعي المواطن لدى المغاربة، عبر التعليم الجيّد والإعلام المسؤول، ولا ديمقراطية بدون حريات، ففي كوريا الشمالية تتم محاربة الفساد يوميا بعقوبات متوحشة ودموية، ولكن لو فُتحت حدود البلد للمواطنين الكوريين لسارعوا جميعا إلى مغادرة أرض لا ينعمون فيها بأبسط شروط الكرامة الإنسانية.
إن حزب “العدالة والتنمية” الإخواني يتحمل مسؤوليته ليس في عرقلة صدور القانون الجنائي، بل في التمويه على المغاربة عن طريق استثناء قضايا جوهرية تتواجد يوميا ومنذ سنوات في عمق النقاش العمومي، وإبعادها من التعديلات الضرورية، حتى يتمكن من الحفاظ على قانون جنائي متخلف تجاوزه الواقع الاجتماعي بسنوات ضوئية.
أحمد عصيد كاتب وشاعر وباحث في الثقافة الامازيغية وحقوقي مناضل من اجل القضايا الأمازيغية والقضايا الإنسانية عامة