التعريب والهوية بالمغرب
مقدمة:
منذ أربعينيات القرن الماضي، وفي خصم النضال من أجل الاستقلال، تكونت لدى “الحركة الوطنية” مجموعة من الأفكار والتصورات حول اللغة والهوية والثقافة بالمغرب، ستصبح، مع مرور السنين، وخصوصا بعد الاستقلال، وبفعل تكرارها وانتشارها وشبه الإجماع الحاصل حولها، ستصبح بمثابة حقائق ثابتة ومسلمات بديهية تشكّل الإطار المرجعي لكل نقاش حول قضايا اللغة والهوية والثقافة بالمغرب.
لكن إذا حاولنا تحليل هذه “المسلمات” وإعادة النظر فيها خارج “الإجماع” الذي يجعل منها حقائق وبديهيات لا تناقش، فقد نكتشف أنها حقائق كاذبة وبديهيات خادعة عندما ندرك أن مضامينها ومراميها الحقيقية تتناقض على طول الخط مع مضامينها ومراميها المعلنة. وكمثال على هذه المسلمات التي يتعارض مضمونها وهدفها المعلنان والمُجمع حولهما مع مضمونها وهدفها الحقيقيين، موضوع التعريب.
فالمعروف، والمسلم به والمُجمع عليه، أن التعريب سياسة نهجتها الدولة منذ الاستقلال ولا تزال متواصلة إلى اليوم، ترمي بها، كما يدل على ذلك مصطلح “التعريب”، إلى استعادة مكانة اللغة العربية ورد الاعتبار لها، بعد أن كانت سلطات الاحتلال قد همّشتها في فترة الحماية الفرنسية، مقدِّمة عليها لغتها الفرنسية التي جعلت منها لغة المدرسة والإدارة والقضاء، وفرضت استعمالها في كل مؤسسات الدولة ومرافقها. وإحدى وسائل هذا التعزيز لمكانة اللغة العربية ـ وكنتيجة له في نفس الوقت ـ هي وضع حدّ لهيمنة اللغة الفرنسية لفسح المجال أمام العربية لتكون هي اللغة الأولى في المدرسة والإدارة وكل مؤسسات الدولة مع تعميم نشرها وتعليمها.
مضمون التعريب وأهدافه إذن هي:
ـ رد الاعتبار للغة العربية
ـ محاربة هيمنة الفرنسية كإرث استعماري تجب تصفيته.
وبالنظر إلى أهداف التعريب هذه، الرامية إلى تعزيز مكانة العربية ومحاربة نفوذ الفرنسية، فلا يمكن لأي مغربي أن يرفض سياسة التعريب أو يعترض عليها، لما عرف به المغاربة من حب شديد للعربية، وتعلقهم الكبير بها، واجتهادهم في دراستها وتعلمها، ونبوغهم في إتقانها وإجادتها.
فهل هدف التعريب هو نشر اللغة العربية أم نشر الهوية العربية؟
اليوم، وقد مر أزيد من نصف قرن على انطلاق سياسة التعريب، وهي مدة كافية تسمح لنا بتقييم حصيلة هذه السياسية، نعود لطرح السؤال التالي: هل كانت مضامين وأهداف التعريب هي حقا محاربة الفرنسية، وحماية اللغة العربية والدفاع عنها والعمل على نشرها وتعليمها، وفرض استعمالها كلغة أولى ورسمية في مؤسسات الدولة؟ أم أن مضامينه وأهدافه هي شيء آخر غير ذلك؟
لماذا هذا السؤال التشكيكي؟
1 ـ لأنه لو كان الهدف من التعريب هو نشر وتعميم اللغة العربية كلغة، لبقي المغرب محتفظا بانتمائه الترابي، أي بهويته المستمدة من موطنه بشمال إفريقيا، مع استمراره في استعمال اللغة العربية ونشرها وتعليمها كلغة رسمية للدولة ولغة ثقافة ومعرفة ومدرسة، كما هو حاصل لدى الكثير من البلدان التي تبنّت، لأسباب تاريخية أو دينية أو اقتصادية أو ثقافية أو عليمة، غيرَ لغاتها الهوياتية كلغات رسمية أولى دون أن يغير ذلك شيئا من انتمائها الترابي الذي يحدده موطنها الجغرافي. فالهند والسينيغال والمكسيك والبرازيل، مثلا، تعتمد الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية كلغاتها الرسمية الأولى، دون أن يغير ذلك الانتماءَ الترابي لتلك الدول ليجعل منها دولا ذات انتماء إنجليزي (الهند) وفرنسي (السينيغال) وإسباني (المكسيك) وبرتغالي (البرازيل).
لماذا سيتغير إذن الانتماء الترابي للمغرب نتيجة لسياسة التعريب ليصبح مغربا “عربيا”، لو كان الهدف من التعريب هو فقط اللغة العربية وليس تعريب الهوية والانتماء؟
فهل من شروط انتشار العربية وتعلمها واستعمالها بالمغرب أن يتحول المغاربة إلى عرب في هويتهم وانتمائهم؟ فلو كان ذلك صحيحا لأصبحوا فرنسيين كذلك نتيجة لتعلمهم واستعمالهم للغة الفرنسية الواسعة الانتشار بالمغرب. فلماذا إذن تجعل منهم اللغةُ العربية شعبا عربيا ولا تجعل منهم الإسبانية والفرنسية المنتشرتان بالمغرب شعبا فرنسيا أو إسبانيا؟
هذه الأسئلة توضّح أن الغاية من التعريب ليست هي اللغة العربية في حد ذاتها كلغة، بل شيء آخر غيرها.
2 ـ ثم إذا كانت غاية التعريب هي حماية اللغة العربية وتعزيز مكانتها، فكيف نفسر تغيير أسماء الأعلام الجغرافية لإفراغها من مضمونها ودلالتها الترابية الأمازيغية دون أن يكون لذلك أية علاقة بتعليم العربية أو خدمتها وحمايتها؟ فهل لا بد لنشر وتعليم العربية تحويل اسم جزيرة “ثورا” إلى “ليلى”، و”أكلمام أزيزا” إلى بحيرة “لالا لعزيزة”، و”أهرمومّو” إلى “رباط الخير” وجزر “إيشفّارنّ” إلى الجزر الجعفرية”؟ فهل من شروط تعليم لغة من اللغات تغيير أسماء الأعلام الجغرافية بأسماء من معجم تلك اللغة التي يراد تعليمها وتعلمها؟ فلو كان الأمر كذلك لأصبحت جبال وسهول ومدن المغرب تحمل كلها أسماء فرنسية كشرط لتعلم الفرنسية المنتشرة بالمغرب.
بل إن جنون التعريب أدى، في حالات كثيرة، إلى إطلاق أسماء على الأعلام الجغرافية لا معنى لها أصلا في اللغة العربية، مثل تحويل الاسم الأصلي الأمازيغي لمدينة “أشاون”، الذي يعني “القرون”، إلى “شفشاون” الذي هو لفظ عبثي ليس له أي معنى سوى إقصاء الاسم الأمازيغي لهذه المدينة الأمازيغية، أو تحريف الاسم الأمازيغي لمدينة “ثيطّاوين” (العيون) إلى اسم “تطوان” الفاقد لأي معنى طوبونيمي، أو تغيير اسم “أطالايون” (ما بين الناظور ومليلية)، وهو لفظ أمازيغي وليس إسبانيا، إلى “أطلعيون” الذي لا يعني شيئا في اللغة العربية.
إن هذا التعريب الذي يدمّر الأسماء الطوبونيمية، ليس لا تربطه أية علاقة باللغة العربية المفترى عليها فحسب، بل هو لا يختلف في أهدافه ووسائله عن سياسة التهويد التي تنهجها إسرائيل بالأراضي المحتلة، حيث تعمل على تهويد أسماء الأعلام الجغرافية لطمس معالمها العربية الإسلامية.
3 ـ وحتى ندرك أن سياسة التعريب لا علاقة لها باللغة العربية، يكفي أن نتأمل شعار التعريب الذي يرفعه دعاته والمدافعون عنه، والذي يقول: “تعريب الإنسان والمحيط والحياة العامة”، لنلاحظ أن اللغة العربية غائبة في هذا الشعار. فلو أن هذا الأخير يقول: “تعريب اللسان…”، لفهمنا أن المقصود هو اللغة. أما وأنه ينص على تعريب الإنسان، فهذا لا يعني إلا شيئا واحدا بلا لبس ولا تأويل، وهو تحويل هذا الإنسان إلى إنسان عربي. وعبارة “تعريب الإنسان” تتضمن اعترافا واضحا أن هذا الإنسان، موضوع التعريب وهدفه، لم يكن إنسانا عربيا وإلا لما كانت هناك حاجة إلى تعريبه.
فما علاقة اللغة العربية إذن بتغيير انتماء الإنسان إلى انتماء عربي؟ هل هذا التغيير ضروري لتعلم اللغة العربية وإتقانها كما سبقت الإشارة؟
الهدف من “تعريب الإنسان” إذن، ليس هو حماية اللغة العربية ولا تعزيز مكانتها، بل هدفه هو طمس الانتماء الترابي الأمازيغي لهذا الإنسان واستبداله بانتماء عربي جديد.
وهذا النوع من التعريب، الذي يستهدف الإنسان وليس اللسان، والرامي إلى تحويل هوية هذا الإنسان إلى هوية عربية، يقترب في الحقيقة من الشِّرك بالله تعالى: فإذا كان الله قد خلق العرب بالمشرق، فإن دعاة التعريب ينافسون الله بخلقهم هو أيضا للعرب بالمغرب. وإذا كانت إرادة الله قد قررت خلق إنسان شمال إفريقيا أمازيغيا في هويته ومحيطه، فلماذا السعي إلى تغيير هذا القرار الإلهي؟ أليس هذا نوعا من الشِّرك بالله؟
4 ـ لو كانت الغاية من سياسة التعريب هي خدمة اللغة العربية وحمايتها وتعزيز مكانتها كما يعلن ذلك دعاة التعريب، لتبنّت الدول العربية، التي عرفت استعمارا لغويا كالمغرب مثل سوريا ومصر والعراق والأردن، هذه السياسةَ التعريبية ما دام أن هذه الدول هي كذلك معنية بلغتها العربية وتعمل على حمايتها ونشرها وتعليمها والرفع من مكانتها. لماذا تغيب إذن سياسة التعريب لدى هذه الدول العربية بالمشرق العربي، مع أنها المعنية الأولى باللغة العربية؟ لسبب بسيط، وهو أنها معروفة فعلا أنها دول عربية ذات انتماء عربي، وهو مالا تحتاج معه إلى تعريب للإنسان الذي هو أصلا عربي. وهذا يؤكد أن التعريب لا يرمي إلى رد الاعتبار للغة العربية، بل يهدف إلى تغيير انتماء الإنسان غير العربي إلى انتماء عربي. ولهذا نجد أن سياسة التعريب، الغائبة عند الدول العربية، حاضرةً في عراق صدام حسين، لأن هذا الأخير كان يستعملها هو أيضا لمحاربة الانتماء الكردي للأكراد بتحويلهم إلى عرب وبهوية عربية.
5 ـ ثم أين رد الاعتبار للغة للعربية التي لا تزال، بعد نصف قرن من التعريب، مهمشة وغير مستعملة في القطاعات الحيوية للدولة الراعية الأولى لسياسة التعريب؟ فمؤسسات أساسية كالقصر والجيش والأمانة العامة للحكومة ووزارات الداخلية والمالية والخارجة…، كلها مرافق تشتعل باللغة الفرنسية التي لا تزال هي اللغة الرسمية الحقيقية للدولة. فأين محاربة الفرنسية التي ادعتها سياسة التعريب؟ بل يمكن القول إن هذه الفرنسية تعززت وتقوى نفوذها أكثر بعد أن أصبحت المناصب المدرة للمال والسلطة تتطلب لشغلها اللغة الفرنسية، وذلك في عز سياسية التعريب. ولهذا نجد أن كبار موظفي الدولة، الذين يتقاضون أجورا عالية جدا، لا يفقهون شيئا في اللغة العربية التي يذبحونها ذبحا كلما حاولوا التحدث بها، كما يفعل بعض الوزراء، الذين ينتمون إلى الأحزاب المدافعة عن التعريب، والذين يتفنون داخل البرلمان، عندما يجيبون على أسئلة النواب، في تعذيب اللغة العربية وإهانتها بطريقة توفر فرجة حقيقية مجانية للمشاهد.
هذا الوضع المتردي الذي تعرفه اللغة العربية بعد خمسين سنة من التعريب، هو الذي دفع إلى إنشاء جمعيات للدفاع عن اللغة العربية كأننا لا نزال تحت الحماية الفرنسية عندما كانت العربية مهمشة ومحارَبة. إذن الهدف المعلن لسياسة التعريب بأنها تدافع عن العربية وتحارب الفرنسية ليس سوى خدعة وأكذوبة.
6 ـ وقد أصبح الشعب المغربي كله يعرف اليوم أن دعاة التعريب لا يعطون القدوة الحسنة في دفاعهم المزعوم عن العربية وحمايتها كما يعلنون عن ذلك في خطاباتهم وأقوالهم، بل يسيئون إلى هذه العربية ويساهمون في إضعافها وتراجعها عندما يسجلون أبناءهم في معاهد لغة التكوين الأساسية فيها هي غير اللغة العربية. وهذا لا يعني تناقضا في الموقف أو نفاقا وانتهازية، كما يبدو ذلك في الظاهر ـ في الظاهر فقط ـ للذين انطوت عليهم خدعة التعريب، بل هو موقف منطقي لدعاة التعريب لأنهم يعرفون أكثر من غيرهم أن الهدف من التعريب ليس هو اللغة العربية وإلا لعلّموها لأبنائهم، وإنما الهدف الحقيقي هو غير ذلك.
7 ـ والمفارقة الغريبة أن المغاربة أصبحوا، نتيجة لسياسة التعريب، شعبا “عربيا” دون أن يكونوا متمكنين من اللغة العربية التي لا تجيدها إلا نخبة متعلمة محدودة بسبب نسبة الأمية المرتفعة، والتي تتجاوز 40%. أما إذا عرفنا أن غالبية “المتعلمين” الذين لم يعودوا يعتبرون أميين، هم كل من سبق أن سُجل بالمدرسة وتعلم بعض الكلمات، فستكون نسبة الأمية الحقيقية (عدم القدرة على فهم وإنتاج نص باللغة العربية) بالمغرب مرتفعة جدا. ومع ذلك فهؤلاء الأميون يعتبرون أنفسهم “عربا” مع أنهم لا يعرفون اللغة العربية. فالتعريب نجح إذن في جعلهم عربا ولم ينجح في تعليمهم اللغة العربية لأن ذلك لم يكن هو هدفه.
النتيجة أننا بحثنا عن اللغة العربية بعد خمسين سنة من التعريب فوجدناها شبه غائبة، سواء في مؤسسات الدولة الحيوية أو لدى المواطنين الذين يعانون من نسبة مرتفعة من الأمية. لكن بالمقابل وجدنا شعبا حوّله التعريب إلى شعب عربي. وهو ما يعني أن الهدف من التعريب لم يكن هو اللغة العربية. فما هي أهدافه الحقيقية إذن؟
ـ إنه تعريب عرقي يرمي، ليس إلى نشر اللغة العربية، بل إلى نشر وترسيخ القناعة لدى المغاربة بأنهم شعب “عربي” ذو أصول عربية.
ـ إنه تعريب سياسي يرمي، ليس إلى نشر اللغة العربية، بل إلى نشر وترسيخ القناعة لدى المغاربة، كذلك، بأن دولتهم عربية تحكمها سلطة عربية.
ـ إنه تعريب هوياتي، يرمي، ليس إلى نشر اللغة العربية، بل إلى نشر وترسيخ القناعة لدى المغاربة، أيضا، بأن المغرب بلد عربي ذو انتماء عربي.
ـ إنه تعريب إيديولوجي يعمل على خلق وعي زائف لدى المغاربة، يكرّس ويزكي تبعيتهم للمشرق العربي على مستوى الانتماء والثقافة والفن والدين (المذاهب والاجتهادات والفتاوى)، حتى أصبح هذا المشرق العربي كالنجم الثابت الذي يدور حوله المغرب ككوكب صغير يستمد وجوده وحركته من النجم المشرقي الكبير.
هذه هي المضامين والأهداف الحقيقية لسياسة التعريب، والتي لا علاقة لها باللغة العربية المفترى عليها.
نتائج التعريب:
نتائج هذا التعريب (العرقي والسياسي والهوياتي والإيديولوجي) عنيفة ومدمرة على مستوى الاستقلال الهوياتي للمغرب والمغاربة. لنذكر بعض هذه النتائج:
ـ ظاهرة النزوح الهوياتي نحو المشرق العربي بحثا عن انتماء عرقي مزعوم، مع ما يعبر عنه هذه النزوح من تنكر للانتماء الترابي الهوياتي إلى أرض المغرب بشمال إفريقيا. ومن مظاهر هذا النزوح ـ ونتيجة له في نفس الوقت ـ اختلاق “أشجار النسب” التي تُرجع أرومة أصحابها إلى أصول عرقية من خارج الانتماء الترابي إلى أرض المغرب، وهي “الأشجار” التي أصبحت تشكل “غابة” لانتشارها الكبير بالمغرب، مع ما يرتبط بها من استعلاء عنصري تمثّله خرافة “النسب الشريف” الذي تمنحه هذه “الأشجار” المزعومة “للمستظلين” بأوراقها الخرافية.. هكذا حوّل التعريب المغاربة، على مستوى انتمائهم الهوياتي، إلى شبه لقطاء يبحثون عن هويات بالتبني لدى الشعوب العربية. وهو سلوك يعبر عن مازوشية ثقافية وهوياتية حقيقية يشعر معها المغربي باللذة والمتعة عندما يحتقر هويته ويتعلق بهوية الآخرين.
ـ وبجانب ظاهرة النزوح الهوياتي ـ وبسببها كذلك ـ، هناك ظاهرة احتقار كل ما هو أصيل ومحلي وترابي، مع تمجيد كل ما هو آت من المشرق العربي، فنا كان أو ثقافة أو مسرحا أو سينيما أو فتوى دينية أو غناء مهما كان تافها ومسفّا. وهذا ما يفسر أن الفنان المشرقي الذي يغني بالمغرب نصف ساعة يصيح فيها “باحبك”، يتقاضى الملايين مع تهميش مهين للفنان المغربي مهما كانت موهبته وعبقريته. بل حتى التمسك بالثوابت ذات المرجعية الترابية، أصبح ينظر إليه كتخلف ورجعية. وهكذا بات الدفاع عن الأمازيغية والارتباط بها يعتبر رجعية وتخلفا، في حين أن الارتباط بالمشرق يمثل التقدمية والنضال.
ـ منذ نشأة “الحركة الوطنية” وبداية الكفاح من أجل الاستقلال، أصبح هذا الارتباط الهوياتي بالمشرق العربي ـ الذي كان مقصورا على نخبة محدودة العدد قبل أن يحوّله التعريبُ إلى ظاهرة عامة تشمل كل المغاربة ـ جزءا من “الكفاح الوطني”، لأنه كان يعني الكفاح من أجل عروبة المغرب. وهو ما يعبر عن أقصى درجات الاستلاب الهوياتي، إذ أصبحت الوطنية تعني الابتعاد الهوياتي عن الوطن.
ـ ولعل أسوأ نتائج هذا التعريب (دائما العرقي والسياسي والهوياتي والإيديولوجي) هو الخلط الذي رسخّه هذا التعريب لدى المغاربة بين الإسلام والعروبة، واستعمالهما في المغرب كمترادفين، مما يجعل التعريب بالمغرب لا يلقى أية معارضة لأنه يعتبر جزءا من الإسلام. وهذا نصب على الإسلام والمغاربة لأن هذا التعريب لا علاقة له لا بالإسلام ولا باللغة العربية كما سبق توضيح ذلك.
ـ أصبحنا نقرأ تاريخنا بالمغرب في اتجاه معكوس. فبدل أن نفسر الحاضر بالماضي، أضحينا نفسر الماضي بالحاضر: فكل ما ندرّسه لتلامذتنا من أساطير عن إدريس الأول الذي أسس أول دولة بالمغرب، وعن فضل العرب “الفاتحين” الذين أخرجوا المغاربة من ظلمات الوثنية إلى نور الإيمان، وعن “بطولات” رجال “الحركة الوطنية” الذين حاربوا “الظهير البربري” بسلاح “اللطيف”… كل ذلك هو نتيجة للتعريب الذي حوّل المغاربة إلى عرب، وبالتالي فقد كان لا بد من خلق تاريخ “عربي” بالمغرب يزكّي “عروبة” المغاربة وتنسجم أحداثه معها، مع إلغاء أية أحداث تاريخية تخالف وتكذّب “عروبة” المغرب التاريخية.
إيديولوجية تقوم على النصب والابتزاز:
الخطير في إيديولوجية التعريب (دائما العرقي والسياسي والهوياتي والإيديولوجي الذي لا علاقة له باللغة العربية) أنها صيغت بشكل فيه غير قليل من النصب والابتزاز يمنعان مسبقا كل اعتراض عليها أو محاولة إعادة النظر فيها. ويظهر هذا النصب والابتزاز في:
ـ استعمال دعاة التعريب اللغة العربية كمبرر ووسيلة للوصول إلى أهدافهم الحقيقية المتمثلة في التعريب العرقي والسياسي والهوياتي والإيديولوجي، والتي هي أهداف لا علاقة لها بتاتا باللغة العربية كلغة، لكن مع الإعلان أن الغاية هي خدمة اللغة العربية وحمايتها والدفاع عنها.
ـ فرض قبول سياسة التعريب دون مناقشة أو اعتراض، وإلا فإن المعترض عليها يتهم بأنه يعادي اللغة العربية والدين الإسلامي ما دام أن العربية هي لغة القرآن، وبأنه يعمل على زرع الفتنة والتفرقة وتهديد الوحدة الوطنية وإحياء “الظهير البربري”.
وهذه التهم هي الردود المعروفة والمكرورة كلازمات سرمدية نسمعها ونواجهها كلما ناقشنا إشكالية الهوية بالمغرب، وربطناها بالتعريب العرقي والسياسي والهوياتي والإيديولوجي.
مع أن موقفنا، نحن المدافعين عن الانتماء الأمازيغي للمغرب، من اللغة العربية معروف وواضح. نحن نميّز بين اللغة العربية التي يجب العناية بها وحمايتها كلغة، وبين التعريب الذي يعمل على تحويلنا قسرا إلى عرب، ملغيا الانتماء الترابي الأمازيغي للمغاربة. نعم وألف نعم للغة العربية كلغة، لكن لا وألف لا للتعريب العرقي والسياسي والهوياتي والإيديولوجي. فاللغة العربية لغتنا بجانب لغتنا الهوياتية التي هي الأمازيغية، لكن العروبة ليست هويتنا بل هي هوية تابعة لموطنها الجغرافي بالقارة الأسيوية. فعندما يقول المسؤولون بالمغرب إن هذا الأخير بلد عربي، فإنهم في الحقيقة يرتكبون جنحة انتحال الصفة التي يعاقب عليها القانون الجنائي.
فنحن عندما نتمسك بانتمائنا الترابي (وليس العرقي)، لا يعني ذلك أننا نعادي العروبة والعرب. فالعرب ليسوا هم من عرّبونا، ولا هم من منع أسماءنا الأمازيغية، ولا هم من غيروا أسماء أعلامنا الجغرافية. بل نجد أن العرب عندما كتبوا عن هذه الأعلام احتفظوا على مسمياتها الأمازيغية ولم يعطوا لها أسماء عربية كما يفعل اليوم المسؤولون عن التعريب بالمغرب. فهذا البكري، في كتابه “المسالك والمماك” (القرن الخامس الهجري) يسمي جزيرة “ثورا” باسمها الأمازيغي الحقيقي (ثورا) ولم يطلق عليها اسم “ليلى” كما فعل أصحاب التعريب عندنا بالمغرب. مشكلتنا إذن ليست مع العرب، بل مع المغاربة الذين يعتقدون أنهم عرب مع أنهم في الحقيقة أمازيغيون ينتمون إلى هذه الأرض الأمازيغية. أما العرب الحقيقيون فنحن نكنّ لهم كل التقدير والاحترام، وهم إخوان لنا في الدين واللغة والثقافة ويجمعنا معهم جزء من التاريخ المشترك، لكن مع استقلال هويتنها عن هويتهم العربية، مثل استقلال الهوية الفارسية أو التركية أو الأفغانية عن الهوية العربية.
هل موقف الحركات الإسلامية من التعريب ينطلق من مرجعية إسلامية أم قومية؟
هذه الإيديولوجية التعريبية، بكل مضامينها العرقية والسياسية والهوياتية والإيديولوجية، تتبناها اليوم بالمغرب وتدافع عنها وتمارسها، كامتداد لموقف “الحركة الوطنية”، كلُّ التيارات ذات التوجهات القومية بكل أطيافها اليسارية واليمينية والعلمانية والماركسية. ودفاع هذه التيارات عن سياسة التعريب شيء مفهوم ومنطقي، لأنه ينسجم مع إيديولوجيتها القومية التي يحركها شعار “القومية العربية” و”الوحدة العربية”، التي يعتبر التعريب جزءا من مضامينها ومفاهيمها وغاياتها.
لكن ما ليس مفهوما ولا منطقيا، بل يشكل نشازا، هو أن تتبنى إيديولوجيةَ التعريب بالمغرب التياراتُ الإسلامية. لماذا يبدو الأمر نشازا وغير مفهوم ولا منطقي؟ لأن ذلك يتناقض مع إيديولوجية الحركات الإسلامية التي تدافع، كما تعلن عن ذلك دائما، عن نظام اجتماعي وسياسي أساسه الدين والشريعة، وليس العروبة والانتماء العربي كما عند القوميين. فهدف الإسلاميين هو إقامة شرع الله وليس شرع العروبة، وأسلمة الدولة والمجتمع، وليس تعريبهما كما عند الحركات القومية.
إنه إذن لأمر نشاز أن تدافع هذه التيارات الإسلامية عن سياسة التعريب، تماما كما يفعل خصومها القوميون. وهذه إحدى مفارقات الخطاب الإسلامي بالمغرب، الذي يرفض كل النزعات العرقية لأنها ذات مضامين جاهلية حاربها الإسلام، مع أن التعريب الذي تدافع عنه هو نفسه نزعة عرقية موغلة في العرقية كما سبق أن شرحنا.
ففي الوقت الذي كان منتظرا من هذه الحركات الإسلامية، انسجاما مع مرجعيتها الإسلامية، أن تعمل على تصحيح الوضع الهوياتي الشاذ بالمغرب، وتحارب التعريب العرقي المخالف أصلا لمبادئ الإسلام، مع إقامة فصل تام وواضح بين الاعتناء باللغة العربية والدعوة إلى تعزيز مكانتها وتقوية حضورها وفرض وتعميم استعمالها في مرافق الدولة ومؤسساتها والمطالبة بوضع حد لهيمنة الفرنسية، وبين سياسة التعريب العرقية التي لا علاقة لها باللغة العربية ولا بالإسلام كما سبق بيان ذلك، فإذا بهذه الحركات تتبنى هذه السياسة وتدافع عنها، في تناقض تام مع مرجعيتها الإسلامية.
نعم يمكن اعتبار اللغة العربية جزءا من المرجعية الإسلامية. لكن التعريب، بمحتواه العرقي والسياسي والهوياتي والإيديولوجي، ليس جزءا من هذه المرجعية، بل هو مناقض لها تماما في أهدافه ومضامينه كما سبقت الإشارة. فكيف يسوغ لحركات إسلامية تنطلق من مرجعية إسلامية أن تتبنى سياسة التعريب العرقية المخالفة للمرجعية الإسلامية؟
الحركات الإسلامية بالمغرب تبدو منسجمة مع مرجعيتها الإسلامية، ومنطقية في توجهاتها وأهدافها ووسائلها. لكن عندما يتعلق الأمر بالأمازيغية، فإنها تقع في تناقضات صارخة وقاتلة تجعل منها، ليس جزءا من الحركة الإسلامية، بل جزءا من الحركة القومية. وهذه بعض مظاهر هذه التناقضات التي تشوب مواقفها عندما يتعلق الأمر بالأمازيغية.
ـ تناقِضُ الحركاتُ الإسلامية بالمغرب مرجعيتَها الإسلامية عندما تستمر في تبني واستعمال العبارة العرقية “المغرب العربي”، التي تحيل، ليس على المرجعة الإسلامية التي تتعارض مع هذه العبارة، بل على مرجعية عرقية بإسنادها المغرب، ليس إلى الإسلام، بل إلى العرق العربي. فقد كان حريا بهذه الحركات الإسلامية، تبعا لتوجهها الإسلامي، أن تكون هي المبادِرة بإلغاء هذه العبارة العرقية غير الإسلامية، واستبدالها بعبارة “المغرب الإسلامي” تأكيدا على المرجعية الإسلامية، التي لا تكلّ هذه الحركات الإسلامية من المطالبة باعتمادها كأساس للتشريع والمعاملات الاقتصادية والحكامة السياسية. ولهذا نعتبر أن تنظيم القاعدة كان أذكى وأدهى وأكثر إسلامية من هذه الحركات الإسلامية عندما غيّر عبارة “المغرب العربي” بعبارة “المغرب الإسلامي” التزاما منه بالمرجعية الإسلامية.
ـ عندما تثار مسألة الهوية، يحسم الأمرَ فيها الإسلاميون بموقفهم المعروف، عندما يقولون “بأن هويتنا هي الإسلام” وانتهى الموضوع. جيد. إذن إذا كانت هوية المغرب هي الإسلام، كما يقولون، فلماذا ينسبونه إلى العروبة ولا ينسبونه إلى الهوية الإسلامية فيسمونه “مغربا إسلاميا” بدلا من استمرارهم في استعمال العبارة العرقية “المغرب العربي”؟
ـ الكثير من الإسلاميين بالمغرب يعادون، على غرار القوميين والعروبيين، الأمازيغيةَ لكن دون أن يكون ذلك العداء منسجما مع توجهاتهم الإسلامية مثل ما ينسجم عداء القوميين والعروبيين للأمازيغية مع توجهاتهم القومية والعروبية. فكم من واعظ وخطيب ينتمي إلى الحركات الإسلامية تسمعه يستفيض في شرح حكمة الله تعالى من خلقه الألسنة مختلفة ومتنوعة. لكن بمجرد ما تذكر له الأمازيغية حتى ينتفض ويستنكر ويقول إن هذه مؤامرة صهيونية، ودعوة إلى الفتنة والتفرقة وعودة إلى “الظهير البربري”… دون أن يدرك أنه بهذا الموقف، المعادي للأمازيغية، ينفي كل ما قاله قبل لحظات عن حكمة الله في خلقه للغات متعددة ومتنوعة.
ـ الإسلاميون يكررون دائما بأن فكرة العروبة بمفهومها العرقي، عندما ظهرت كحركة قومية وعروبية في بداية القرن الماضي، كانت مشروعا علمانيا جاء ليحارب الإسلام والخلافة الإسلامية التي كانت تمثلها الدولة التركية آنذاك، والتي (الخلافة) نجح المشروع القومي العلماني في القضاء عليها بتحالفه مع العرب المسيحيين والاستعمار الإنجليزي. فكيف تجمع الحركات الإسلامية بالمغرب بين الدفاع عن المرجعية الإسلامية وعروبة المغرب بالمفهوم العرقي؟ أي كيف تدافع عن الإسلام ونقيضه في نفس الوقت؟
ـ لا تزال الحركات الإسلامية بالمغرب، بسبب قناعاتها العروبية غير المعلنة، عاجزة عن تصور مغرب إسلامي بلا عروبة، كأن العروبة ركن من أركان الإسلام. مع أنها تعرف أن هناك أزيد من مليار مسلم غير عربي لا يشك أحد في صدق إسلامهم، وأن العرب المسلمين لا يشكلون إلا أقلية محدودة ضمن مسلمي العالم.
فلماذا لا تستطيع الحركات الإسلامية بالمغرب تصور مغرب إسلامي بهويته الترابية الأمازيغية؟ ولماذا لا تستطيع قبول دولة بالمغرب بثوابت جديدة هي الأمازيغية والإسلام بدل العروبة والإسلام، ما دام الذي يهم هذه الحركات هي المرجعية الإسلامية التي تضمنها هذه الثوابت الجديدة؟ لأن الحركات الإسلامية بالمغرب لا تزال هي أيضا تخلط بين العروبة والإسلام، وبالتالي فهي عندما تربط المغرب بالعروبة، فلأنها تعتبر هذه العروبة جزءا من الإسلام، منطلقة في ذلك من التصور العامّي المنتشر لدى الأميين من الطبقات الشعبية. وهذا الجمع بين العروبة والإسلام بالمغرب هو إحدى نتائج التعريب العرقي كما سبق شرح ذلك.
ـ بعض الإسلاميين المتشددين بالمغرب يدعون ـ أو كانوا يدعون ـ إلى إقامة إمارة إسلامية على غرار نظام الطالبان السابق في أفغانستان. لكنهم يناقضون هم أنفسهم هذا النموذج الطالباني الذي يستلهمونه، عندما ينسون أن الطالبان أقاموا إمارة إسلامية حقا، ولكن بانتماء ترابي إلى الأرض الأفغانية وليس بانتماء عربي كما يريدون أن يفعلوا بالمغرب. ونفس الشيء بالنسبة للإسلاميين المغاربة الذين يستلهمون النموذج الإيراني الذي يريدون تطبيقه بالمغرب مدافعين عن “ولاية الفقيه” التي يُعرف بها النظام الإيراني، متناسين هم أيضا أن النظام الإسلامي لإيران ذو انتماء ترابي إلى الأرض الفارسية وليس ذا انتماء عربي.
ونفس التناقض عند “المعتدلين” من الإسلاميين المغاربة الذين وصلوا إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، مستلهمين نموذج الحزب الإسلامي التركي الحاكم بتركيا. لكنهم يناقضون هذا النموذج الذي يريدون تطبيقه بالمغرب كدولة عربية، مع أن الحزب الإسلامي بتركيا يدافع عن الإسلام والمرجعية الإسلامية في إطار الانتماء الترابي التركي وليس الانتماء العربي.
ـ وتظهر هيمنة المرجعية العروبية العرقية لدى إسلاميي المغرب، بدل المرجعية الإسلامية، في تضامنهم مع القضايا العربية بدواعٍ عرقية وليس إسلامية. وإلا كيف نفسر أنه لم يسبق لهم أن نظموا تظاهرة واحدة لنصرة الشعب الأفغاني الذي يعاني هو كذلك من الاحتلال الأميركي، ولا للتضامن مع شعب “الإيكور” المسلم بالصين الذي تعرض لأبشع اضطهاد في 2010 على يد السلطات الصينية، ولا لمؤازرة شعب الشيشان المسلم عندما كانت روسا تشبعه تقتيلا وإبادة؟
واضح من هذا الاستدلال أن الحركات الإسلامية بالمغرب ليست إلا الوجه الإسلامي للحركات القومية العروبية، وأنها لم تنجح بعدُ في التحرر من الاستلاب الهوياتي العروبي لتعتمد المرجعية الإسلامية كمعيار وحيد في قضايا الهوية واللغة والثقافة، وهو ما كان سيفرض عليها محاربة سياسة التعريب العرقية المخالفة للمرجعية الإسلامية بدل تبنيها ومساندتها.
كاتب ومفكر وباحث ومناضل أمازيغي منحدر من منطقة الريف ومدير نشر جريدة تاويزا. ألف العديد من الكتب والمقالات التنويرية القيمة