الحاج إبراهيم والبوليتيك: ضرورة الحزب بمرجعية أمازيغية
بعد أن انهيت قراءة ترجمة كتاب “جون واتربوري”، “الهجرة الى الشمال سيرة تاجر أمازيغي” زادت قناعتي أكثر بضرورة تأسيس حزب بمرجعية ثقافية أمازيغية. بالرغم من أن هذا الكتاب لم يأت بجديد في الموضوع، خاصة بعد اطلاعي منذ سنوات على كتابه المحوري “أمير المؤمنين”، الذي يضم بعض المعطيات التي وردت في كتاب سيرة تاجر امازيغي، ثم بعد قراءة دراسة “روبير مونتاني” حول نشأة البروليتاريا المغربية الذي تحدث هو الآخر عن هجرة السوسيين إلى الدار البيضاء ومدن الداخل، وكذلك دراسة الباحث “أندري أدام”، وغيرها من الدراسات المغربية والأجنبية التي تناولت الموضوع من زوايا نظر مختلفة. ولكن هذا الكتاب المترجم مؤخرا يضيف إفادات ومعطيات كثيرة ويقترح مقاربة تحليلية، ويظهر أن واتربوري كان من المعجبين بالاشتغال على “السير الذاتية” في التحليل الانثروبولوجي، على غرار باحثين كثر اشتغلوا على السيرة لتطوير نظرياتهم وأبحاثهم، ك “كليفورد كيرتز” و”جاك بيرك” الذي اشتغل على اليوسي، و”دافيد ايكلمان” اشتغل على المنصوري شيخ زاوية ابي الجعد، وآخرون كثر. وقد تأخر المعهد الملكي للثقافة الامازيغية كثيرا في ترجمة هذا الكتاب، وربما يعتبر من بين الإصدارات الأخيرة للمعهد قبل الحاقه إلى المجلس الوطني. والكتاب ترجمه الباحث “عبدالمجيد عزوزي” ترجمة رصينة بلغة ممتعة ودقيقة مع احترام كبير للمترادفات الامازيغية داخل المتن.
إن جون واتربوري كما عرفناه في أمير المؤمنين لم يختلف كثيرا عن واتربوري سيرة تاجر أمازيغي، فالباحث متخصص في الانثروبولوجيا، ولكن تستهويه السياسة ويغوص في البحث والتنقيب داخل الأنساق السياسية، ويحب واتربوري كثيرا أن يلج غرف السياسة والسلطة والنفوذ العاتمة، عن طريق تملك مفاتيح الاقتصاد والثروة. في أمير المؤمنين شق الباحث الأمريكي طريق خلخلة النسق السياسي المغربي من الفوق ثم النفاذ إلى التحت، من خلال تحليل مؤسسة المخزن والحماية ثم “الحركة الوطنية” وأحزابها ونخبها السياسية والاقتصادية والعلمية، وكشف بنيات الصراع حول النفوذ والتحكم السلطوي والاقتصادي بين هذه كل الأوساط والمؤسسات المتصارعة للانفراد بحكم المغرب بعد الاستقلال. لكن هذه المرة اختار واتربوري أن ينطلق من الأسفل، بل من الجنوب وليس من فاس أو الرباط أو البيضاء. من منطقة محددة وراء سفوح الأطلس الصغير وهي سهل “أملن” بجانب مدينة تافراوت الحالية. وهو السهل الذي ولد فيه العبقري الاديب العالمي محمد خير الدين، واختاره كفضاء اجتماعي وثقافي ليكون مسرحا للأحداث والشخصية التي أنجز حولها الرواية الجميلة الراقية “أسطورة أكنشيش”. ويوجد تشابه كبير في الوصف الذي ابدعه خيرالدين في مقدمة روايته الذي عنونه بالعودة إلى الجنوب، والوصف الذي يدعم به واتربوري سيرة الحاج إبراهيم.
إن جوهر هذه السيرة يكمن في الخيط الناظم الذي يخترق اغلب الصفحات، والذي يدور بين السياسة والتجارة والاقتصاد، وميكانيزمات صناعة الثروة في مغرب ما بعد الاستقلال. وهو الذي فصل فيه الباحث بشكل مستفيض في الفصل الخامس الذي عنونه ب “البوليتيك”. وهي نفس الخطاطة التي سلكها في كتابه السابق كما أشرنا، خاصة في التنافس بين أهل سوس وأهل فاس. بالرغم من أن صاحب الكتاب يذكر في احدى صفحاته أن هذا التنافس “غير عملي”. لكن طيلة صفحات السيرة يردد واتربوري على لسان الحاج براهيم أن السوسيين متدمرين من غطرسة الفاسيين داخل حزب الاستقلال، وانهم لم يلقوا الاعتراف اللازم على تضحياتهم في سبيل الاستقلال وحرية الوطن سواء اثناء مشاركة اهل سوس في المقاومة المسلحة، لاسيما أن الحاج براهيم كان عضوا مشاركا في ملاحم مقاومة آيت عبلا، أو سواء تعلق الأمر بالمقاومة داخل المدن والحواضر داخل التنظيمات السرية التي كانت تقود الكفاح المسلح خاصة في المدن الكبرى. وحكى صاحب السيرة بمرارة ان التجار الصغار القادمين من سوس كانوا أمام فوهة بركان حين قادوا عمليات سرية، ووتعرضوا للتعذيب والتفتيش أكثر من مرة، في حين كانوا يطبقون تعليمات من أناس مجهولين لا يعرفونهم يقولون انهم هم القادة السياسيين للتحرير. وبعد الاستقلال تخلوا عنهم، واستفادوا من الرخص ومن الامتيازات والأراضي والمناصب، وبقي التجار الصغار القادمين من سوس يتجرعون الألم والنسيان. وقد أعطى صاحب السيرة دلائل وبراهين تدل على أن ذلك العنف الرمزي الذي مارسته النخبة السياسية والبورجواوزية الحضرية على السوسيين هو الذي قادهم إلى الانضمام بكثافة إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بزعامة المهدي بن بركة واخرون ودعموا هذا الحزب الفتي ماديا وجماهيريا الذي انشق عن حزب الاستقلال سنة 1959. وفي سنة 1960 شارك الحزب في الانتخابات، وحقق فوزا كاسحا ضد حزب الاستقلال في انتخابات غرفة التجارة والصناعة بمدينة الدار البيضاء التي تعتبر العاصمة الاقتصادية والرأسمالية بالمغرب، هذا الانتصار التاريخي الذي حققه حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمرشحين مغمورين قادمين من بوادي سوس، انتصروا على لائحة مرشحي حزب الاستقلال تضم أسماء تجار نافذين كبنسودة والسبتي وبناني وبنشقرون….
لكن للأسف الشديد بعد مرور سنوات اكتشف السواسة ان حزبهم الجديد لا يختلف مع حزب الاستقلال في أي شيء، وانما يجد روح استمرار نفس البنية ونفس منطق التعامل مع القواعد الشعبية خاصة التجار السوسيين. نقتبس فقرة تعبر عن هذه الخلاصة: ” كنا في حزب الاستقلال بمثابة البدويين السذج أمام الفاسيين، وعندما أسس بن بركة ورفاقه حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لأسباب لا تمسنا لا من قريب ولا من بعيد، لم يكن لدينا أي خيار أخر غير الانضمام إليه. إن حزب الاستقلال يعني بالنسبة الينا الفاسيين، ولم يكن هناك أي داع للبقاء معهم، لكن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بدأ يستغلنا بنفس طريقة حزب الاستقلال سابقا.” (سيرة تاجر أمازيغي ص 174).
إن هذه الخلاصة التي وصل اليها تاجر امازيغي شارك في المقاومة المسلحة في قبيلته ضد فرنسا، وبعد ذلك هاجر إلى مدينة طنجة ثم إلى الدارالبيضاء وانضم إلى صفوف النضال والكفاح مرة أخرى في صفوف ما كان يسمى بالحركة الوطنية ثم انخرط في حزب الاستقلال، وانشق عنه وأسس حزب الاتحاد الوطني بعد الاستقلال، وبعد مرور سنوات قليلة اكتشف أن هذه الأحزاب تستغله ابشع استغلال.
لم يكن الحاج إبراهيم قادرا على معرفة أسباب هذا الاستغلال، لانه غير قادر على ذلك باعتباره مناضلا من الأسفل يضحي بنفسه وبماله وجهده ووقته من اجل حرية الوطن، ثم يناضل من اجل بناء أحزاب سياسية. لم يكن الحاج إبراهيم الذي لم يلج المدرسة قط، ولم يسافر لا إلى الشرق ولا الى الغرب، لكي يستطيع تفكيك أسباب ذلك الاستغلال واللاعتراف الذي تقابله به الأحزاب التي كان ينتمي اليها، لأنه لا يملك الأدوات المعرفية التي ستساعده على فهم البنيات الايديولوجية والأفكار المذهبية والسياسية التي تدافع عنها تلك الأحزاب، وهي بنية العروبة والقومية العربية والسلفية التي تناهض بشدة ثقافة الحاج إبراهيم ولغته وتسعى إلى تفكيك حضارته وتشويه تاريخه، عن تلك الأحزاب التي كشف الحاج إبراهيم نفاقها وأكاذيبها عن طريق الممارسة والخبرة النضالية، هي أحزاب سرقت تضحيات المغاربة وخطفت مجدهم وأكلت الاستقلال الذي استشهد في سبيله الالاف من المغاربة.
اليوم نقرأ هذا الكتاب، ونجتر مرارة الألم على صفحاته التي يروي فيها تاجر أمازيغي مسار حياته السياسية والتجارية. إنها سيرة نجاح الامازيغ على سكة التجارة والاقتصاد، ولكنها تروي سيرة النكسة في طريق السياسة. فقد كتب التاريخ أكبر مؤامرة سياسية في حق الامازيغ بالمغرب وشمال افريقيا عموما، حين استعملوا كوقود في حروب التحرير، وحين صبح الاستقلال أصبحوا رمادا تقذف به عواصف الأحزاب السياسية وصراعاتها وتطاحناتها. في المغرب نصب كمين سياسي سنة 1930 تجلى في ما يسمى “بالظهير البربري” كمين خطير جعل الامازيغ خارج النسق السياسي، حيث دبرت لهم مؤامرة لتأسيس أحزاب بمرجعية العروبة والقومية العربية. أحزاب تتحكم فيها نخبة قليلة تعادي اللغة والثقافة الامازيغيتين. وبالتالي فهي تجرد الأمازيغ من هويتهم وخصوصياتهم ولغتهم قبل الانضمام اليها، وتضع العروبة والتعريب والفرنكوفونية كشرط من شروط الانخراط في الأحزاب، لأنها تضع من مبادئها العامة والاستراتيجية خدمة التعريب والعمل على القضاء نهائيا على اللغة الامازيغية.
إننا نقرأ سيرة الحاج إبراهيم على ضوء دينامية تأسيس حزب بمرجعية أمازيغية، يضع في صلب اهتماماته هموم التاجر الصغير والمآسي التي ترتبت عن هجرته إلى الشمال، على رأسها مأساة الأرض، أكال.
مناضل أمازيغي وإعلامي وكاتب وباحث في التاريخ