تفعيل رسمية الأمازيغية بين السياسي والإداري
« Il n’y a jamais eu, il ne saurait y avoir de grande politique sans bonne administration »
Emile de Girardin
أمام تعثر العديد من ملفات الإصلاح وغير قليل من أوراش تنزيل الكثير من مضامين الدستور، لا يجد المواطنون بُدّا من الإشارة بأصابع الإتهام إلى الحكومة وعلى الخصوص إلى من يتولى مسؤولية قيادتها، متهمين إياه بالتقصير في أداء مهامه، والعجز عن الوفاء بوعوده واحترام التزاماته. فوعينا الجمعي، باعتباره البنية المعرفية المتغيرة للمجتمع التي تحدد تقديرنا لعناصر الفعل والتحكم والتأثير، لا يرى مسؤولا آخر عن فشل الإصلاحات وتعثر أوراشها غير الفاعل الحكومي.
فالإدارة، في نظر المواطنين، ليست سوى أداة تنفيذ تتحكم فيها الحكومة، فالسياسي، حسب هذا المنظور، هو الذي يحدد تصوره للسياسات العمومية والعامة ويعدها وينفذها وتكون الإدارة في كل هذه المراحل رهن إشارة الفاعل السياسي الذي يقود الحكومة؛ لذلك توجه أصابع الإتهام للفاعل السياسي، دون غيره، ويحاسب وحده على فشل السياسات العمومية والعامة.
لكن، وبالنظر لما نلاحظه وما سبق وأن أشار إليه العديد من الباحثين؛ أليست السياسات العمومية مسرحا للصراع بين السياسي والإداري؟ أليست هذه السياسات منتوجا خالصا لمخاض التدافع السياسي وصراع التصورات المتناقضة في ساحة البحث عن الإجابات الممكنة للمشاكل العمومية وانتظارات المواطنين؟ ألا تثبت الممارسة الفعلية والواقع المعاش أن الإدارة ليست فقط أداة تنفيذ وأنها، أولا وأخيرا، سلطة قائمة الذات ضمن نسق بيروقراطي؟
هذه الأسئلة وغيرها ذات الصلة بجدلية السياسي والإداري وتغول الييروقراطية، كانت محور أعمال العديد من علماء الإجتماع والمفكرين والمختصين، فقد شغلت كارل ماركس وماكس فيبر وميشال كروزيي وديفيد غرايبر وآخرون. وقد طَرَحْنَا هذه الأسئلة لا للتصدي لها، فالأمر أكبر بكثير من حيز هذا المقال ويتجاوز إمكانيات صاحبه، لكننا طرحناها للارتكاز عليها بغية فتح باب النقاش حول موضوع تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية بين السياسي والإداري.
سؤال السياسات العمومية لتفعيل رسمية الأمازيغية؟
يعتبر مفهوم السياسات العمومية مفهوما بالغ التعقيد فهو ملتقى العديد من الحقول المعرفية، ومن ضمنها علم السياسة وعلم الإدارة، ويشير المعهد العالي للدراسات العمومية في فرنسا إلى أن السياسة العمومية “هي مجموع القرارات و الأعمال والتدخلات المتخذة من قبل الفاعلين المؤسساتيين والاجتماعيين لأجل إيجاد حلول لمشكل جماعي ما”. أما اصطلاحيا، فالسياسات العمومية هي الخطة التي تقوم على تصورات تنجز على أرض الواقع لمعالجة مشكل معين يمس مجالا معينا.
وعلاقة بموضوعنا، يمكن القول أن السياسات العمومية ذات الصلة بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، ورغم أنها مؤطرة بالخطابات الملكية، والدستور، والقانون التنظيمي رقم 26 -16، والمخطط الحكومي المندمج لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، فمعالمها ما زالت غير واضحة وبالتالي فهذه السياسات العمومية عاجزة عن تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية والتقيد بالجدولة الزمنية المنصوص عليها في القانون التنظيمي المتعلق بمراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية.
وإذا كانت مسؤولية الفاعل الحكومي قائمة في ما تعانيه السياسات العمومية ذات الصلة بالأمازيغية من ضبابية وترهل وعجز وبطئ في الإنجاز، فإن مسؤولية الإدارة قائمة أيضا، لأنها شريك في هندسة وصناعة السياسات العمومية ؛ فالكثير من المعطيات الميدانية تؤكد مسؤوليتها في ما يعاني منه ورش الأمازيغية، الذي يواجه العديد من التحديات ذات الصلة بأداء الفاعل الإداري، نذكر من بينها:
أولا – تحدي العقليات : فتكلس العقليات في الكثير من المصالح المركزية والخارجية بوزارة التربية الوطنية، على سبيل المثال، أضر كثيرا بورش إدماج الأمازيغية في المنظومة التعليمية، وأوقف الزخم والحماس الذي تميز بهما هذا الورش في سنواته الأولى ( خرج الورش إلى الوجود سنة 2003).
ثانيا – تحدي تكوين الموارد البشرية المؤهلة : فرغم مرور أزيد من عشر سنوات على ترسيم الأمازيغية وانصرام أزيد من ثلاث سنوات من عمر القانون التنظيمي رقم 26 – 16 لم تبادر الإدارات العمومية إلى إحصاء الموارد البشرية المتوفرة في مختلف مصالحها والمؤهلة للإنخراط في تفعيل رسمية الأمازيغية، ولا بادرت إلى تحديد الخصاص في الموارد البشرية اللازمة لمواكبة ورش الأمازيغية، في إطار تدبيرها التوقعي للوظائف والكفاءات.
ثالثا – غياب سياسات قطاعية واضحة المعالم لتفعيل رسمية الأمازيغية: فرغم ما تحقق خلال السنة الماضية ونخص بالذكر الشروع في الترجمة الفورية في مجلس النواب وتوظيف مساعدين اجتماعيين بوزارة العدل وإدماج الأمازيغية في الهوية البصرية للبعض من مؤسسات الدولة، فإنه يلاحظ غياب سياسات قطاعية واضحة المعالم قابلة للتحقق مع مؤشرات الإنجاز وقياس الأثر، ولن يختلف إثنان حول الدور المحوري للفاعل الإداري في بلورة هذه السياسات القطاعية.
سؤال ما العمل؟
ليس بوسعي الإجابة عن هذا السؤال، لكن يمكنني الإدلاء بدلوي بشأنه، وأقول أن إشكالية من يتحكم في السياسات العمومية ليست حكرا على المغرب، فالصراع بين الفاعل الإداري والفاعل السياسي حول من سَيَتَحَكَّم في صناعة السياسات العمومية، إشكالية تهم كل بلدان العالم بشكل متفاوت؛ ففي فرنسا، مثلا، وصل الأمر ببعض الباحثين والمفكرين والمهتمين بالموضوع إلى القول بأن الدولة في حرب مع موظفيها، كما هو الشأن مع الكاتبة ” Agnès Verdier Molinié” التي نشرت كتابا عنوانه: ” الموظفون ضد الدولة”.
فجدلية الإداري والسياسي هي في واقع الأمر لعبة شد الحبل بين الفاعل الإداري، من جهة، والفاعل السياسي، من جهة أخرى، فإذا مالت الكفة لصالح الإدارة صارت بيروقراطية مهيمنة على كل مراحل وضع السياسات العمومية، وإذا مالت جهة السياسي عادت الإدارة إلى وضعها الطبيعي أي أنها رهن إشارة الفاعل السياسي لإعداد وتنفيذ السياسات العمومية.
مغربيا، يمنح القانون الأسمى ميكانيزما دستوريا يجب تفعيله للخروج من لعبة شد الحبل هذه، يتمثل في الديمقراطية التشاركية؛ ميكانيزم يمكن الاعتماد عليه لضبط العلاقة بين الفَاعِل السياسي والفاعل الإداري مع استحضار دور الفاعل المدني. فالديمقراطية التشاركية لا تقصي أي من الفاعلين الثلاث من المشاركة والمساهمة في إعداد السياسات العمومية. ولعل هذا ما أراد السيد رئيس الحكومة أن يؤكد عليه، يوم 10 شتنبر الماضي بأكادير، حين أشار في كلمته أمام باحثين ونشطاء من الحركة الأمازيغية، إلى أدوار كل من الفاعلين الثلاث، مؤكدا على أهمية دور الفاعل المدني في تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، واستعداده للجلوس، شخصيا، مع الفعاليات المدنية للاشتغال على برامج أولويات للدفع بورش الأمازيغية قدما إلى الأمام.
ناشط حقوقي وباحث، ساهم في تأسيس العديد من الجمعيات. رئيس منظمة تاماينوت سابقا، عضو مؤسس للفضاء الجمعوي بالمغرب، والرئيس المؤسس للمرصد الأمازيغي للحقوق والحريات ولتكتل تمغربيت للإلتقائيات المواطنة.