من أكاذيب “الظهير البربري”: “التفرقة العنصرية” نموذجا
(بمناسبة ذكرى “الظهير البربري” = 16 ماي 1930)
1 ـ توضيحات لا بد منها:
ما نعرفه عن “الظهير البربري”، كما تعلمنا ذلك في المدارس وقرأناه في كتب تاريخ المغرب المعاصر، هو أن هذا الظهير «قانون عنصري شرّع تفرقة إثنية بين المغاربة على أساس عرقي، وذلك بفصل عنصري “للبربر” عن “إخوانهم” العرب».
لنقرأ إذن نص الظهير لنقف على الفصول والأحكام التي تنص على إقامة تفرقة عنصرية بين المغاربة “البربر” والمغاربة “العرب”. فهذه التفرقة، كما هو معروف، تشكّل عنصرا رئيسيا في الظهير إلى درجة أن “اللطيف” يتحدث عنها حصرا ولا يشير إلى العناصر الأخرى، مثل التنصير والعودة إلى الوثنية ومحاربة الإسلام.
لكن عندما نقرأ نص الظهير ونعيد قراءته، في نسخته الفرنسية الأصلية المنشورة بالعدد 918 من الجريدة الرسمية الصادرة بتاريخ 30 ماي 1930، وفي نسخته العربية المنشورة بالعدد 919 من الجريدة الرسمية الصادرة بتاريخ 6 يونيو 1930، فإننا لا نعثر على أية إشارة صريحة ولا حتى ضمنية تؤكد هذه التفرقة أو تنص عليها.
فالمعروف أن قوانين الفصل العنصري، كالتي كانت سائدة بجنوب إفريقيا في عهد “الأبارتايد”، تُطبّق على مجموعة إثنية ذات مميزات عرقية خاصة بها. وفي الحالة التي تعنينا، والتي تتعلق بالأمازيغيين وفصلهم عرقيا عن “العرب”، هذه المميزات تتمثل في خاصية الانتماء العرقي الأمازيغي. إذن شرط تطبيق هذا القانون العنصري الذي جاء به الظهير، حسب ادعاءات “الحركة الوطنية”، هو أن يكون الشخص “أمازيغيا”، أي “بربريا” كما يسميه أصحاب “اللطيف”، ولا يطبق على ما سواه من المغاربة اليهود أو “العرب” لأن لهم انتماءً عرقيا غير أمازيغي. معيار تطبيق هذا القانون العنصري إذن هو توفر ميزة خاصة هي الانتماء العرقي الأمازيغي.
2 ـ معيار حضور “الأعراف البربرية”:
ظهير 16 ماي 1930، الذي حرّفه “اللطيفيون” إلى “ظهير بربري”، يحمل في نصه الفرنسي الأصلي العنوان التالي: «Dahir du 16 mai 1930 (17 Hija 1348) réglant le fonctionnement de la justice dans les tribus de coutume berbère non pourvues de mahkamas pour l’application du Chrâa».
وهو العنوان الذي جاء في النسخة العربية بالصيغة التالية: «ظهير شريف يصبح بموجبه قانونيا مطابقا للأصول المرعية سير شؤون العدلية الحالي في القبائل ذات العوائد البربرية التي لا توجد فيها محاكم مكلفة بتطبيق القواعد الشرعية». وهو ما يمكن ترجمته إلى لغة اليوم كما يلي: (ظهير 16 ماي… المنظم للقضاء بالقبائل ذات الأعراف الأمازيغية…).
لنلاحظ جيدا أن النص يحصر، من خلال عنوانه، تطبيق هذا القانون في “القبائل ذات العوائد البربرية”، وليس “القبائل البربرية”. ما الفرق، على مستوى الآثار القانونية، بين العبارتين؟
لو استعمل النص عبارة “القبائل البربرية” لجاز أن نستنتج من ذلك أن “القبائل البربرية” وحدها، ودون غيرها، هي المعنية بهذا القانون والخاضعة له. فيكون المعيار المعتمد هنا، في “القبائل البربرية”، هو حقا معيار عنصري يتعلق بتوفر شرط الانتماء العرقي الأمازيغي. لكن النص يستعمل، بدل ذلك، عبارة “القبائل ذات العوائد البربرية”. وهو ما يعني أن معيار تطبيق أحكام الظهير ليس الانتماء العرقي الأمازيغي، وإنما وجود الأعراف الأمازيغية (العوائد البربرية) وممارستها. فلا يهم أن تكون القبيلة أمازيغية أو عربية أو أندلسية أو يهودية أو زنجية إفريقية، وإنما الذي يهم كشرط لتطبيق أحكام هذا القانون هو أن تكون تلك القبيلة تمارس الأعراف الأمازيغية وتحتكم إليها. ومعروف أن الأعراف الأمازيغية، حتى وإن كانت أصولها أمازيغية، فتطبيقها لم يكن مقصورا على الأمازيغيين وحدهم، بل كان العمل يجري بها عند مجموعات عربية ويهودية حسب المناطق التي كان هذا العرف منتشرا وسائدا بها. فالظهير يخص إذن جميع القبائل التي يجري العمل فيها بالعرف الأمازيغي بغض النظر عن أصلها العرقي والإثني.
3 ـ مبدأ “الترابية ” وليس “الشخصية”:
ويترتب عن العمل بالعرف الأمازيغي كشرط لتطبيق الظهير في القبائل التي يسود لديها هذا العرف، أن كل الأشخاص المقيمين أو المتواجدين بتراب هذه القبائل، التي هي موضوع تطبيق الظهير، يخضعون هم كذلك لأحكامه وتطبّق عليهم مقتضياته مهما كانت أصولهم العرقية والنسَبية. كل هذا يبيّن بجلاء أن المبدأ الذي يحكم تطبيق هذا القانون هو مبدأ “ترابية القوانين”، الذي يعني أن تطبيق قواعد قانونية معينة مقيّد بمجال ترابي (منطقة) محدد بغض النظر عن نوع الأشخاص (عرب، أمازيغيون، يهود، أجانب…) الذين يخضعون لهذه القواعد داخل هذا المجال الترابي. وهو ما ينفي عن هذا الظهير أي طابع عنصري وعرقي، لأن القوانين العنصرية يحكمها مبدأ “شخصية القوانين”، الذي يعني أن تطبيق قواعد قانونية معينة مشروط بتوفر مميزات عرقية ملازمة للشخص موضوع هذه القواعد بغض النظر عن المكان (المنطقة الترابية) الذي يوجد فيه، لأن هذا القواعد تتبعه أينما حل وارتحل لأنها مرتبطة بشخصه. وهذا ما كان عليه حال القوانين العنصرية بجنوب إفريقيا في مرحلة “الأبارتايد” حيث كانت هذه القوانين تطبق على الشخص ذي البشرة السوداء سواء كان في مدينة “بريتوريا” Pretoria أو “جوهانسبورغ” Johannesburg أو “لو كاب” Le Cap أو “دوربان” Durban…
والدليل العملي أن تطبيق ظهير 16 ماي 1930 لم يكن مرتبطا بالشخص الأمازيغي بصفته أمازيغيا، هو أن الأمازيغيين الذين كانوا يعيشون مثلا بمدن الدار البيضاء وفاس والرباط ومراكش ووجدة، لم يكونوا تابعين لاختصاص المحاكم العرفية التي نظمها الظهير المعني رغم أنهم أمازيغيون، وإنما كانوا تابعين لاختصاصات المحاكم العصرية أو محاكم القواد والباشوات. لماذا؟ لأن نفوذ المحاكم العرفية مقصور على مجال ترابي معين، كما رأينا، ولا يشمل المجال الترابي لهذه المدن المذكورة.
4 ـ “المغربيون” وليس “المغربيون البربر”:
يقول الفصل الأول من الظهير في نسخته الفرنسية: «Dans les tribus de Notre Empire […] la répression des infractions commises par des sujets marocains… ». ، وهو ما ترجمه النص العربي كما يلي: «إن المخالفات التي يرتكبها المغربيون في القبائل ذات العوائد البربرية…». فسواء ترجمنا عبارةSujets marocains بـ”الرعايا المغاربة” أو اكتفينا بلفظ “المغربيون” (المغاربة) كما فعل النص العربي، فواضح، بشكل لا يترك مجالا لأي لبس أو تأويل، أن أحكام ظهير 16 ماي 1930 تسري على كل المغاربة الموجودين بمناطق العرف الأمازيغي، ولا تخص فئة الأمازيغيين وحدهم بصفتهم العرقية الأمازيغية. فلو كانت نية المشرّع تقصد هذا التخصيص العرقي، لاستعمل العبارة التي تفيد ذلك، وهي: «Sujets marocains berbères»، وبالعربية: “المغربيون البربر”. وهذا تأكيد آخر أن نطاق تطبيق الظهير ليس أشخاصا بعينهم، بل مناطق ترابية بعينها، سواء كان الشخص الموجود بتلك المناطق ذا انتماء عرقي عربي أو أمازيغي أو يهودي.
ويوضّح الفصل السادس هذه المسألة أكثر عندما يقول في النص الفرنسي: «Les juridictions françaises […] sont compétentes pour la répressions des crimes commis en pays berbère, quelle que soit la condition de l’auteur du crime». وفي النص العربي: «إن المحاكم الفرنسوية […] لها النظر في زجر الجنايات التي يقع ارتكابها في النواحي (جمع ناحية، بمعنى منطقة) البربرية مهما كانت حالة مرتكب الجناية».
5 ـ إلغاء صفة “بربري” دون أن يؤثر ذلك على مضمون القواعد العرفية:
بعد الضجة التي افتعلها أصحاب “اللطيف” عقب صدور ظهير المحاكم العرفية لـ16 ماي 1930، والذي سموه “الظهير البربري”، أدركت سلطات الحماية أن هؤلاء استغلوا صفة “بربرية” المسندة إلى لفظ “العوائد” في نص ظهير 16 ماي، ليستعملوا ذلك مبررا و”دليلا” على أن هذا الظهير، المنظم للمحاكم العرفية، هو بالفعل “ظهير بربري” يرمي إلى التفرقة العنصرية بين العرب و”البربر”، بناء على ما ينص عليه من صفة “البربرية” التي ترد فيه. ولهذا قررت سلطات الحماية، في كل النصوص التشريعية التي ستصدر لاحقا حول نفس الموضوع الذي هو العرف الأمازيغي، إلغاء ليس لفظ “بربر” و”بربرية” فحسب، بسبب ما قد يحيل عليه من معاني الإثنية والعرقية، بل عمدت إلى إلغاء حتى لفظ “قبيلة” و”قبائل” الحاضر في ظهير 16 ماي 1930 وظهائر أخرى سابقة، وذلك منعا لكل تأويل إثني وعرقي قد يوحي به هذا اللفظ أيضا، وسدا للطريق أمام المغرضين من أصحاب “اللطيف” حتى لا يستعملوا هذه الألفاظ للتلاعب بمضامين النصوص التشريعية وادعاء أنها تقيم تفرقة عنصرية بين فئات المجتمع المغربي. وهكذا نجد أن ظهير 8 أبريل 1934، الذي يعدّل ظهير 16 ماي 1930 (أي “الظهير البربري”)، يقول في فصله الأول: «وأن الاختصاصات […] تسري في سائر الأمور الجنائية على البلدان (يقصد “المناطق”) من مملكتنا السعيدة المعروفة بالبلدان ذات العرف أو العوائد». وهو ما عبر عنه نفس الظهير في صيغته الفرنسية الأصلية كما يلي: «La compétence […] est étendue, en toutes matières criminelles, aux pays de coutume de Notre Empire»
فلو أن مبدأ العرقية هو المقصود في عبارة “العوائد البربرية” في نص 16 ماي 1930، بدل مبدأ الترابية، لتغيرت المقتضيات والمضامين ـ لتصبح “غير عنصرية” بعد أن كانت “عنصرية” ـ في النصوص التي لم تستعمل لفظ “بربرية” وهي تتناول مسألة العرف والمحاكم العرفية مثل ظهير 8 أبريل 1934 المشار إليه. والحال أن تلك المقتضيات لم يمسسها أي تغيير في مضامينها وتطبيقاتها نتيجة لحذف صفة “بربرية”، باستثناء التعديلات التي تضمنتها تلك المقتضيات، والتي (التعديلات) لا علاقة لها بإبقاء أو حذف صفة “بربرية”.
كل هذا يبيّن جليا أن مجال تطبيق أحكام ظهير 16 ماي 1930 هو وحدات ترابية (مبدأ ترابية القوانين)، وليس جماعات إثنية ذات خصائص عرقية خاصة بها. ولهذا يتحدث ظهير 8 أبريل 1934عن «البلدان ذات العرف أو العوائد»، تأكيدا على أن الأمر يتعلق بمجال جغرافي ولا علاقة له بما هو شخصي وإثني.
6 ـ أين هو “الفصل العنصري” أثناء فترة تطبيق الظهير؟
لقد قرأنا إذن نص الظهير، بنسختيه الفرنسية والعربية، بحثا عن الفصول والمعاني التي تفيد التفرقة العنصرية بين العرب والأمازيغيين كما ادعى أصحاب “اللطيف”، فلم نجد لذلك حضورا ولا أثرا. وهو ما يبيّن، بشكل واضح وصارخ، أن إلصاق تهمة التفرقة العنصرية بالظهير هو أكذوبة أخرى لأصحاب “اللطيف”، تنضاف إلى أكاذيبهم المكوّنة لأسطورة “الظهير البربري”.
ثم لو كان صحيحا أن الغاية من هذا الظهير هي إقامة تفرقة عنصرية بين العرب والأمازيغ، حسب أكاذيب أصحاب “اللطيف”، لظهرت آثار هذه التفرقة خلال فترة تطبيقه التي امتدت من 1930 إلى تاريخ إلغائه بعد الاستقلال (ظهير 4 أبريل 1956، وظهير 25 غشت 1956).
فخلال كل هذه المدة التي جرى فيها العمل بهذا الظهير، لم يلاحظ أي تغيير، لأسباب عنصرية، في العلاقات بين العرب والأمازيغيين. فهذه العلاقات، على مستوى التزاوج والمصاهرة والمعاملات التجارية والتنقل من وإلى “المناطق” العربية والأمازيغية والإقامة بهما، استمرت كما كانت قبل صدور الظهير. وهو ما يكشف حجم ما اختلقه أصحاب “اللطيف” من أكاذيب وافتراءات على الأمازيغيين والمغاربة وعلى التاريخ. وهذا هو التغيير الوحيد الذي أحدثه الظهير في العلاقة بين “العرب” والأمازيغيين: فالجزء من “العرب” الذين كانوا يمثلون “الحركة الوطنية”، أصبحوا كذابين ومفترين في علاقتهم بالأمازيغيين أكثر مما كانوا عليه قبل صدور الظهير. فلعنة الله على الكذّابين والأفّاكين.
كاتب ومفكر وباحث ومناضل أمازيغي منحدر من منطقة الريف ومدير نشر جريدة تاويزا. ألف العديد من الكتب والمقالات التنويرية القيمة