التاريخ المغربي بين الواقع والتزييف
عن منشورات السلسلة التربوية التي يشرف عليها الأستاذ جامع جغايمي بأكادير، صدر الكتاب السابع بعنوان: “التاريخ المغربي بين الواقع والتزييف”، متضمنا لدراستين قيمتين، الأولى للأستاذ جغايمي نفسه بعنوان “المؤرخ المغربي بين الحقيقة التاريخية والوهم الإيديولوجي”، والثانية حول “ظهير تنظيم المحاكم العرفية (الظهير البربري): ما حقيقته في تاريح المغرب المعاصر؟” للأستاذ محمد منيب.
يأتي هذا الكتاب كمساهمة متميزة من قبل أفراد من المجتمع المدني في إعادة كتابة تاريخ المغرب كتابة سماتها المنطق، العلمية، الوضوح والموضوعية، بعيدا عما هو موجود حاليا من أعمال “تاريخية” أغلبها مزيف ومزور ولا تعكس بتاتا الحقيقة التاريخية المغربية، إذ كانت بالأساس نتاجا للإيديولوجيات العديدة المستوردة، والتي تحفل بها الساحة المغربية، بدءا بالحركة السلفية وامتداداتها، النزعة التغريبية التي دافعت عنها الأوساط البرجوازية الداخلة في علاقات حب ومصلحة مع المستعمر، ثم النزعة العربية الشرقية. كل هذه النزعات عملت عملها في تاريخ المغرب، حتى أصبحنا داخل إطار هذا التاريخ، نؤرخ للأجنبي أكثر من الأصلي. وبذلك استفادت هذه النزعات المتطرفة والرافضة للأمازيغ من الامتيازات اللامتناهية التي منحتها لها الدوائر الرسمية بلا حسيب ولا رقيب. ونتيجة لهذا، تمت أدلجة الفكر المغربي ونسي المغربي نفسه فذاب في هويات مستوردة.
خصصت الدراسة الأولى للكشف عن جزء قليل جدا من مظاهر التزييف والتدليس في التاريخ المغربي، التي تؤطرها أساطير كبرى وأوهام كثيرة. هكذا وقف الأستاذ جامع جغايمي على مجموعة من الحقائق جوهرها أخطاء ارتكبها أناس سموا مؤرخين. فنجد عبد الله العروي مثلا يدعو إلى عدم الاهتمام بالكتابات التاريخية التي خلفها “سابق البربري”، شاكا في وجود هذا المؤرخ الأمازيغي شك الفقهاء في الصحابي الجني شمهروش، رغم أن المؤرخ الأمازيغي ابن خلدون ـ الذي ما زال العروي وغيره يتعلمون منه ـ تحدث كثيرا عن سابق البربري. وموقف العروي هذا موقف عنصري بامتياز لأنه يبين أن الحقيقة التاريخية توجد بيد المؤرخ العربي، أما المؤرخالأمازيغي فلا يعرف شيئا!
أما الواقعة الثانية، فقد أشار فيها الباحث إلى مجهودات عبد الله العروي وعبد العزيز بن عبد الله في إرجاع أصل الأمازيغ إلى المشرق، وبالضبط بني كنعان! اعتمادا على أسطورة “إفريقش” المعلومة، والتي فندتها أولا أقلام تاريخية قديمة كابن خلدون ومحمد بن حزم، وثانيا أنها لم تسلم من انتقاد النتائج التي توصل إليها علماء الحفريات في إطار أبحاثهم الأثرية واشتغالهم على الآثار الأركيولوجية.
أما أخطر وقائع التدليس والتزوير، فهي تلك المتعلقة بتأليه ما يسمى بالحركة الوطنية أو ما نطلق عليه داخل أدبيات الحركة الثقافية الأمازيغية “الحركة الوثنية”، عبر مقولة “الظهير البربري” الذي كان ولا يزال المجال الخصب لنشر الخرافات والأساطير المرتبطة بتاريخ المغرب. فمن قائل إلى أنه يرمي إلى تنصير إيمازيغن، إلى قائل إلى أنه يسعى إلى تقسيم المغرب، والقائمة طويلة…
بعد ذلك انتقل المؤلف إلى رصد العوامل التي كانت وراء عمليات التزوير التي وقع التاريخ المغربي الموضوعي والحقيقي ضحية لها. فهناك العامل الإيديولوجي المتعلق بالأوهام التي روجتها النخب المدينية والدينية والأرستقراطية المخزنية ونشرتها بين الناس حفاظا على مصالحها وامتيازاتها، وبالتالي حجب الحقيقة على كثير من الشعب المغربي. العامل السيكولوجي الذي يرتبط بحضور الذاتية في عمل المؤرخ واستحضار وجدانه أثناء التفكير، مثل لك تمجيد العنصر العربي والإصرار على تناول الماضي الأندلسي وتحويل علاته إلى فضائل. العامل السوسيولوجي الذي يرتبط بكون المؤرخين المغاربة أسسوا للتاريخ المغربي على أساس ثنائية عرب/أمازيغ وكون المجتمع المغربي تقاسمته فترات حكم عربي وآخر أمازيغي. وفي هذا الإطار أورد الباحث القولة اللابريئة للزعيم المفترض علال الفاسي: “جلاء الجيوش الفرنسية أيها الإخوة واقع بالضرورة بعد بضع سنوات، وكذلك جلاء الجيوش الإسبانية والجيوش الأمريكية، إنما مشكلنا المزمن هو مشكل البربر، فكيف جلاؤهم”.
“جلاء الجيوش الفرنسية أيها الإخوة واقع بالضرورة بعد بضع سنوات، وكذلك جلاء الجيوش الإسبانية والجيوش الأمريكية، إنما مشكلنا المزمن هو مشكل البربر، فكيف جلاؤهم”
علال الفاسي
كما قال علال الفاسي بفرنسا يوم 21 ماي 1947 : “إن الفرنسيين أصدقاؤنا و الأمازيغ أعداؤنا و إن الشعب المغربي الموريسكي الذي أخلص لفرنسا في أخطر أوقاتها ، لن يغير موقفه منها في المستقبل و أنه يريد أن تكون فرنسا حليفته الدائمة “
في الأخير يقدم الكاتب مجموعة من التوصيات:
ـ تحرير التاريخ المغربي من قبضة كل الإيديولوجيات.
ـ إعادة كتابة تاريخ المغرب وفق معيار الموضوعية.
ـ تجاوز الثنائية القطبية أثناء التاريخ.
أما الدراسة الثانية، والتي كتبها الأستاذ محمد منيب، فقد اهتمت بدراسة ما يسمى في التاريخ المغربي الرسمي بالظهير البربري، فأوردت اسمه الحقيقي وهو “الظهير المنظم لسير العدالة بالقبائل ذات الأعراف الأمازيغيةوالتي لا توجد بها محاكم لتطبيق الشريعة”، متحدثة عن الدوافع الرسمية التي مهدت لإصدار الظهير المذكور، ومن بينها: موافقة القبائل على الخضوع لسلطة المخزن في إطار مخطط التهدئة ـ حرص القبائل على الحفاظ على أعرافها وقوانينها العرفية ـ عدم كفاية المحاكم المخزنية…
وقد قام مجموعة من الشباب المراهقين وثلة من “المغاربة” المحميين من طرف الأجانب والمنتمين بالأساس إلى البورجوازية الفاسية بقيادة حملة ضد هذا الظهير مدعين في البداية أن فرنسا تسعى عن طريق هذا الإجراء إلى تفضيل المناطق التي يسكنها إيمازيغن، وبالمقابل تهميش المناطق العربية، فلما لم تنجح لهم هذه الخطة لجؤوا إلى استغلال الشعور الديني للناس وإيهامهم أن الظهير يمس بالإسلام ويهدف إلى التفرقة بين العرب والأمازيغ مستعينين بقراءة اللطيف السيئ الذكر، كما استعرضت الدراسة موقف الأمازيغ من أطروحة الظهير.
إن الفرنسيين أصدقاؤنا و الأمازيغ أعداؤنا و إن الشعب المغربي الموريسكي الذي أخلص لفرنسا في أخطر أوقاتها ، لن يغير موقفه منها في المستقبل ويريد أن تكون فرنسا حليفته الدائمة
علال الفاسي بفرنسا يوم 21 ماي 1947
الكتاب إذن قيم في مجمله، ذلك أنه كشف عن مجموعة من الحقائق المطموسة طمسا في التاريخ لمغربي.