إيض ينّاير.. كرونولوجيا الاعتراف والترسيم بالمغرب


إن الحديث عن “أسگاس أماينو” أو السنة الأمازيغية الجديدة، وإثارة نقاشه في الأوساط الأسرية المغربية والمجتمعية، خلال النصف الثاني من القرن الماضي، أي ما بعد استقلال المغرب 1956. كان من المُحرّمات والطابوهات الإجتماعية التي يصعُب الخوض فيها بكل حرية وطلاقة داخل البنية المُجتمعية لشمال أفريقيا عموما والمجتمع المغربي خصوصا، باختلاف أشكالهم وشواربهم السياسية والأيديولوجية. ناهيك عن التضييقات والاعتقالات الواسعة التي طالَت مجموعة من المعتقلين والنشطاء السياسيين والحقوقيين خلال ستينات وسبعينيات القرن الماضي، حيث وصل الأمر حينذاك إلى اعتقال المناضل اليساري المُدافِع عن هويته الأمازيغية “علي صدقي أزايكو” سنة 1981 والحكم عليه بالحبس النافذ لسنة كاملة بسبب مقال بسيط أسماه “في سبيل مفهوم حقيقي لثقافتنا الوطنية”. ويحمل هذا المقال في طياته مواضيع كثيرة مسكوت عنها اجتماعيا وأهمها هو إثارة الحديث عن الهوية الوطنية والثقافة الأمازيغية لبلدان شمال افريقيا.

تحدّث أزايكو في هذا المقال عن المكونات الأساسية التي تحدد بشكل عِلمي أمازيغية شمال أفريقيا، وأبرزَ الدور الرئيسي والمباشر الذي تلعبه العلوم الإنسانية ك: الأركيولوجيا والأنطروبولوجيا والسوسيولوجيا… في تحديد الركائز الأساسية لهوية الشعب الأصلي المتواجد في شمال أفريقيا منذ أن عَرَف التاريخ نفسه، كما عبّر عن ذلك الفيلسوف” ابن خلدون” في مقدمته الشهيرة.

ظلّت السنة الأمازيغية غائبة عن المشهد السياسي المغربي العام وعن أهم الأحداث والاحتفالات الوطنية، إلا أن المناطق الهامشية بَقِيَت مُتشبثة بخصوصياتها التاريخية والثقافية وإرثه اللامادي بوعي أو بغير وعي في مختلف المناطق الناطقة بالأمازيغية: الأطلس، الجنوب الشرقي، سوس، الريف… إلخ.

لِيتم بعد ذلك توسيع رقعة التخليد شيئا فشيئا والتعريف بهذه المحطة التاريخية المهمة في تاريخ الشعب الأمازيغي بالوسط الجامعي للطلاب باختلاف انتماءاتهم وأوساطهم السوسيو-اقتصادية. وكانت تُعتبر اللغة الأمازيغية قبل هذه المبادرات الأولى لإخراجها من رقعة المنازل إلى المجتمع بأكمله، من الأمور المنسية والمُتغاضى عنها في جل المجالات الحيوية بالمغرب: التعليم، الطب، القضاء، الإعلام… وفي المقابل يتم الإحتفال بمختلف الأعياد والمناسبات الأخرى الوطنية منها والدينية مع إستبعاد تام للغة الأمازيغية.

عرفت مرحلة التسعينيات من القرن الماضي جملة من التضييقات على بعض نشطاء جمعية “تيليلي” المهتمة بالشأن الأمازيغي، لِكتابتهم لافتة بالحرف الأمازيغي “تيفيناغ”، حيث اعتبرت السلطة آنذاك هذا الفعل تهديداً لخصوصياتها الثقافية والتاريخية والدينية وخروجاً عن النصوص القانونية العامة المُؤطرة لِسُلوك الأفراد داخل المجتمع المغربي.

يُعتبر المُثقف المُشاكس بتعبير أحمد شيراك في كتابه المثقف والسلطة، علي صدقي أزايكو من المناضلين الذين قدموا الشيئ الكثير للقضية الأمازيغية إلى جانب مفكرين أكاديميين آخرين.

ومن خلال إصداراته (علي صدقي)، لِكُتُب ذات أهمية عِلمية وأكاديمية كبيرة ك: تاريخ المغرب أو التأويلات المُمكنة. حيث تحدث فيه عن كرونولرجية الغزو العسكري المباشر لشمال أفريقيا من مختلف القوى الإستعمارية الأجنبية، وأيضا الغزو الفكري والثقافي اللذان ساهما بشكل كبير في إبعاد الثقافة واللغة الأمازيغية من الفضاء العام والقطاعات الأساسية ذات الأولوية والانتقاص من قيمتها الاجتماعية ومكانتها الاعتبارية.

ظلّ الاحتفال بالسنة الأمازيغية مقتصرا على بعض الجمعيات الأمازيغية منذ سنة 1967، مع جمعية التبادل الثقافي والحركة الأمازيغية في الشارع السياسي بشكل محدود جدا، نظرا لقلة الاهتمام بالأمر في أوله. ثم انتقلت إلى الفضاء الجامعي مَطلع تسعينيات القرن العشرين مباشرةً بعد بروز الحركة الثقافية الأمازيغية بجامعة فاس فالراشدية فمكناس، فوجدة… كمكون طلابي يدافع عن الأمازيغ وتاريخهم العريق ويهتم بمحطاتهم التاريخية وإرثهم الكفاحي المُمتد لآلاف السنين. مما سيعزز انتشارها (السنة الأمازيغية) بشكل مُهوِل وكبير بين الأوساط الطلابية بعدما كانت محظورة وممنوعة من طرف التنظيمات اليسارية المُتحكمة في زِمَام الأمور وفي تسيير مؤتمرات ومقررات المُنظمة النقابية “أوطم” بداية من المؤتمر 13 سنة 1969، إلى غاية 1981 حيث سيفشل المؤتمر 17 للمنظمة وستعيش تشرذما وتشتتا على مستوى التنظيم والممارسة.

إن الدور الذي لعبته الفعاليات الأمازيغية الديمقراطية في التعريف ب”أسگاس أماينو” داخل البنية المجتمعية بمختلف الطرق والأساليب.. لَعِب دوراً هاماً وجوهريا في توسيع رقعة تخليدها من لدن العديد من مكونات الشعب المغربي وألقت استحساناً كبيراً بعد مرحلة الألفية الثالثة حتى من غير الناطقين بالأمازيغية.

تميزت هذه المرحلة الجديدة من تاريخ المغرب المعاصر بتجديد الرؤية المستقبلية وتكسير الطابوهات السائدة والقطع مع جميع أنواع التمييز والانتفاح على مختلف الملفات العالقة منذ عقود من الزمن، من أجل حلّها وتبني ثقافة الاعتراف كمدخل أساسي إلى التعايش السلمي بين جميع الأطراف ومكونات الشعب المغربي.

إن بناء العهد الجديد المُتسم بالتعدد عبر الخطاب الملكي بتاريخ 17 أكتوبر 2001 وطيّ صفحة الماضي نهائيا، كان من القرارات الذكية والصائبة في سبيل المضي قدما وذلك باستثمار مختلف المظاهر الثقافية واللغوية لبلادنا، عبر ترسيخ مبدأ المثاقفة والتعايش الثقافي السلمي.

إن تأسيس بعض المؤسسات الرسمية (IRCAM)، للاهتمام باللغة والثقافة الأمازيغية وإدماجها في منظومة التربية والتكوين منذ سنة 2003، من الأمور التي أعادت للأمازيغية صيتها المفقود منذ عقود، وأسست لمرحلة انتقالية مهمة في تاريخ المغرب، إذ تُوجت بترسيمها في دستور 2011 كما نصت على ذلك الفقرة الثالثة من الفصل الخامس، حيث اعتُبِرت اللغة الأمازيغية لغة رسمية للدولة إلى جانب اللغة العربية، وإرثا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء.

رغم التأخر النسبي الذي طال إخراج القانون التنظيمي 26.16 إلى حيز الوجود، ثم نشره بالجريمة الرسمية بتاريخ 26 سبتمبر 2019.. إلا أنه كان بمثابة ثمرة لمجهود طويل من التحضيرات والاعدادات المهمة، التي ساهمت في إبراز اللغة الأمازيغية في مختلف القطاعات ولعل أهمها التعليم، وذلك بالرفع من عدد أساتذتها وطنيا، ودعم التخصصات بالجامعات التي تتوفر على شعبة الدراسات الأمازيغية من خلال إحداث مناصب جديدة وفتح ماسترات عديدة بها ومراكز الدكتوراه. وهذا بحد ذاته نتيجة لمسار نضالي طويل جدا وعسير، خاضته الحركة الأمازيغة على مستوى الشارع السياسي العام، والحركة الثقافية الأمازيغية داخل الجامعات المغربية.

بعد اعتراف الجزائر بالسنة الأمازيغية الجديدة 2969 واعتبراها يوم عطلة مؤدى عنه وكذلك بعض الجهات في ليبيا، هذه السنة حان دور المغرب للاعتراف بهذه الرمزية التاريخية والثقافية لدى الشعب الأمازيغي ليتم اعتبار 14 يناير 2024 المواقف ل01 إيناير 2974 يوم عطلة مؤدى عنه.

وصار اليوم الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة تحصيل حاصل وفرض يقين على جميع مكونات الشعب المغربي وغيره، باختلاف منطوقاتهم وتوجهاتهم السياسية والفكرية، بعيدا عن كل الحسابات الضيقة.

إن الوقوف عند هذه المحطة التاريخية المهمة، من الأساسيات المُلِحّة التي تستدعي التثمين والتثبيت من جميع مكونات الشعب سواء الناطقين بالأمازيغية وغير الناطقين بها، وأيضا التعريف بأهم خصوصياتها الثقافية والحضارية بعد غيابها عن الفضاء العام لِسنوات طويلة.

مع اقتراب 13 يناير من كل سنة ميلادية، المتزامنة مع ذكرى السنة الأمازيغية الجديدة، تشهد الساحة السياسية العامة نقاشات حادة بين مؤيد ومُعارض من الإسلاميين والماركسيين لهذه الذكرى الاستثنائية، لاختلافها عن باقي التقويمات الأخرى الميلادية والهجرية. باعتبارها سنة فلاحية بامتياز تمتد إلى سنة 950ق.م وذلك احتفاءً برمزية الإنتصار التاريخي للملك الأمازيغي شيشناق على الفراعنة في شخص “رامسيس الثالث” سنة 950 ق.م. وتعتمد هذه المناسبة على تحضير بعض المنتوجات الطبيعية وكل ما تُنتجها الأرض من مواد وخيرات فلاحية.

وأخيرا، يمكن القول بأن تخليد أو احتفال ب: “إيض يناير” يُعد مكسبا للشعب الأمازيغي الذي ناضل لقرون عديدة للحفاظ على ثقافته وحضارته ولغته من الاندثار والزوال والمحو التام من الوجود. وما الاعتراف الذي نعيشه اليوم إلا ترسيخاً لثقافة الحفاظ على الموروث الثقافي الأمازيغي وتأكيداّ على عدالة الحقوق اللغوية والثقافية التي نادوا بها إيمازيغن منذ عقود خَلت، والموقعة تحت قُبة الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 1979/11/18.

بقلم: وليد البورماقي –  أستاذ اللغة الأمازيغية بمديرية المضيق الفنيدق


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments