الأمازيغية في خطاب 20 غشت 2021
أثار الخطاب السامي الذي وجّهه الملك، كما هو معلوم، إلى الشعب المغربي يوم 20 غشت 2021 بمناسبة الذكرى الثامنة والستين لثورة الملك والشعب، اهتماما خاصا لدى نشطاء الحركة الأمازيغية. ويرجع هذا الاهتمام الخاص إلى أن الخطاب:
ـ يذكّر بأن المغرب «دولة عريقة، تمتد لأكثر من إثني عشر قرنا، فضلا عن تاريخها الأمازيغي الطويل». وهو ما أشاد به العديد من نشطاء الحركة الأمازيغية، كما يظهر ذلك في كتاباتهم وتحليلاتهم التي تناولت هذا الموضوع، مبرزين أن تأكيد الخطاب على التاريخ الأمازيغي الطويل هو بمثابة اعتراف رسمي آخر بأمازيغية المغرب من طرف أعلى سلطة في البلاد.
ـ يتضمّن عبارة: “اتحاد المغرب العربي” التي قد تُؤوّل على أنها عودة إلى التسمية القديمة المُقصية للأمازيغية، والتي ألغاها دستور 2011 الذي استعمل بدلها عبارة “الاتحاد المغاربي” و”المغرب الكبير”. وحتى لا يكون هناك تناقض بين الاعتراف “بالتاريخ الأمازيغي الطويل” وعبارة “المغرب العربي” التي لا تعترف للدول المغاربية إلا بانتمائها “العربي”، اجتهد بعض الكتاب الأمازيغيين، وبشكل لا يخلو من طرافة في التبرير والتعليل، للإقناع أن ليس في الأمر أي تناقض، موضّحين أن عبارة “اتحاد المغرب العربي” تخصّ السياق التاريخي الذي استُعملت فيه هذه العبارة عندما تأسس “اتحاد المغرب العربي” (17 فبراير 1989) بهذه التسمية التي أُطلقت عليه آنذاك كتسمية رسمية. وبالتالي فالتسمية لا تعني المغرب الحالي بعد أن أزالها من دستوره الجديد.
في الحقيقة، عبارة “المغرب العربي” التي وردت في الخطاب ليست، ما لم نربطها بعبارة “التاريخ الأمازيغي الطويل” التي سبقتها، بذات أهمية إطلاقا، حتى تستحق أن تُعرض للتحليل والنقاش. هي ليست ذات أهمية لأنها، ومهما كانت المقاصد التي يمكن أن تُنسب إليها، لا تمثّل، في حدّ ذاتها، مشكلا حقيقيا البَتّةَ. أما ما يمثّل هذا المشكل الحقيقي في الخطاب، بالنسبة إلى الأمازيغية، ويجعل من عبارة “المغرب العربي” مشكلا أيضا، فهو عبارة “التاريخ الأمازيغي الطويل” للدولة المغربية التي وردت ضمن الخطاب، والتي استقبلها المدافعون عن الأمازيغية بكثير من التهليل والتنويه، كما سبقت الإشارة. لماذا يكون هذا التذكير، ضمن الخطاب الملكي، بالتاريخ الأمازيغي الطويل للدولة المغربية مشكلا بالنسبة إلى الأمازيغية؟
إذا وقفنا عند عبارة: “تاريخها الأمازيغي الطويل”، مفصولة عما قبلها، كما فعل بعض النشطاء الأمازيغيين، فلا يمكن إلا أن نشيد بذلك ونبتهج له، لأنه اعتراف واضح بالتاريخ الأمازيغي للدولة المغربية. لكن إذا وضعنا العبارة في سياق الفقرة التي وردت فيها، كما تقتضي ذلك قواعدُ تحليل الخطاب، فسيكون لتلك العبارة معنى آخر وغاية أخرى ربما لا تروق المرحبّين بها، الذين رأوا فيها اعترافا بالتاريخ الأمازيغي للدولة المغربية. لنقرأ الفقرة حتى يمكننا فهم كلماتها وعباراتها، في ارتباط بعضها بالبعض الآخر: «فالمغرب مستهدف، لأنه دولة عريقة، تمتد لأكثر من إثني عشر قرنا، فضلا عن تاريخها الأمازيغي الطويل…». ماذا نلاحظ، وماذا نفهم، وماذا نستنتج؟
ـ الاعتراف بالتاريخ الأمازيغي الطويل للدولة المغربية ليس شيئا جديدا، ولا حتى بالغ الأهمية. لماذا؟ لأن حتى أعتى الأمازيغوفوبيين الرافضين للأمازيغية والمحاربين لها يعترفون أن المغرب كان في تاريخه القديم أمازيغيا. والدليل على ذلك أن واضعي المقررات الدراسية للتاريخ لما بعيد الاستقلال، وقد كانوا من جهابذة الأمازيغوفوبيا لأنهم كانوا من رجال “الحركة الوطنية” أو من تلاميذها، اعترفوا في دروس التاريخ التي قرّروها أن “البربر هم سكان المغرب الأولون”، كما يعرف الجميع. وبالتالي فإن تاريخهم لا يمكن أن يكون إلا تاريخا “للبربر”. أَلْفِتُ النظر، هنا، إلى أن مناقشة عبارة “تاريخها الأمازيغي الطويل” ليست ردّا على الخطاب الملكي الذي تضمّنها، بل ردّا على بعض المحسوبين على الأمازيغية الذين رأوا في تلك العبارة “فتحا” مهما للأمازيغية.
ـ إلا أن ما يحدّد معنى ومقصد هذه العبارة، ليس هي نفسها بل ما قبلها، أي: “تمتدّ لأكثر من اثني عشر قرنا”. فالتاريخ الأمازيغي للدولة المغربية، إذا كان طويلا، فذلك لما قبل اثني عشر قرنا. ولهذا جاءت عبارة “تاريخها الأمازيغي الطويل” مفصولة عما سبقها، تمييزا لهذا التاريخ الأمازيغي عن التاريخ الذي يبدأ منذ اثني عشر قرنا، مع استعمال لفظ “فضلا” الذي يفيد إضافة تاريخ الاثني عشر قرنا إلى تاريخ آخر مختلف، وهو التاريخ الأمازيغي. وهو ما يُفهم منه أن التاريخ الأمازيغي الطويل ليست له استمرارية في الحاضر، بل توقّف منذ أزيد من اثني عشر قرنا، ليبدأ تاريخ آخر غير أمازيغي. ولهذا لو جاء في النص، وبلا ذكر “لاثني عشر قرنا”، أن “المغرب دولة عريقة بتاريخها الطويل”، ودون حتى ذكر لفظ “أمازيغي”، لكان ذلك أفضل للأمازيغية من النص الحالي الذي يذكر التاريخ الأمازيغي، لكن كتاريخ مستقل وسابق عن تاريخ ما قبل اثني عشر قرنا.
ـ فمصدر المشكل إذن في هذه الفقرة التي تتضمن عبارة “التاريخ الأمازيغي”، هو عبارة “اثني عشر قرنا” التي سبقتها. لماذا؟ لأن القول بأن دولة المغرب تمتد لأكثر من اثني عشر قرنا، وليس عشرة أو عشرين أو ثلاثين…، يعني في الوعي الشعبي والثقافي، وحتى الأكاديمي، وكنتيجة للتعريب الماسخ للتاريخ والمزوّر لحقائق الماضي، شيئا واحدا، وهو أن الدولة المغربية الحالية هي امتداد لتلك الدولة التي أسّسها إدريس الأول، العربي ذو النسب الشريف، كما يكرّر ذلك التاريخ الرسمي الأسطوري. وإذا كانت هذه الدولة المغربية الحالية امتدادا للدولة التي تأسست منذ ما يزيد عن اثني عشر قرنا، أي التي أقامها إدريس الأول العربي “الشريف”، كما تقول الأسطورة الرسمية، فمعنى ذلك أنها دولة عربية وليست أمازيغية. وفي هذا إقصاء واضح للأمازيغية، سياسيا وهوياتيا وتاريخا (ما قبل اثني عشر قرنا).
ـ الآن فقط، وبعد أن فهمنا ما تعنيه عبارة “الاثني عشر قرنا”، على مستوى هوية الدولة وانتمائها وتاريخها، يسهل علينا أن نفهم لماذا استعمل الخطاب عبارة “اتحاد المغرب العربي”، ولو مرة واحدة. فأن يكون هذا المغرب “عربيا”، فذلك ما ينسجم إذن تماما مع تاريخ المنطقة وانتمائها الهوياتي منذ “الاثني عشر قرنا”.
ـ نعم، صحيح أن دخول الإسلام إلى الربوع الأمازيغية دشّن لمرحلة جديدة من تاريخ المغرب. وهو ما كان يجب أن تعتبر معه الدولة الإدريسية ـ إذا كان لا بد من استعمال هذه التسمية ـ أول دولة أمازيغية إسلامية بالمغرب. وهنا يكون التذكير بامتداد الدولة المغربية إلى أزيد من اثني عشر قرنا، يعني تلك الدولةَ الأمازيغيةَ في هويتها والإسلامية في ديانتها، وليس الدولة العربية القائمة على خرافة “النسب الشريف”، والتي جعل منها التاريخ الأسطوري والخرافي والعنصري شبه حقيقة بديهية لا تُناقش.
ـ فما يُفهم ويُستنتَج إذن من هذا الاعتراف بالتاريخ الأمازيغي، بالصيغة التي تفصله عن تاريخ المغرب لفترة الاثني عشر قرنا الأخيرة كما شرحنا، هو أنه اعتراف بالوجود الأمازيغي في الماضي، دون أن يعني ذلك اعترافا بهذا الوجود في الحاضر. لكن مشكلة الأمازيغية هي مشكلة واقعها الراهن، وليس ماضيها، سواء كان هذا الماضي زاهرا أو متخلّفا. فالاعتراف الذي تحتاجه الأمازيغية هو استعمالها الكتابي كلغة للدولة ومؤسساتها، مع ما يشترطه ذلك من تدريسها الإجباري والموحّد، الجدي والحقيقي، إعمالا لتفعيل طابعها الرسمي، الجدي والحقيقي، وليس الشكلي والرمزي. هذا هو الحلّ الوحيد الذي يضمن إعادة إنتاجها المدرسي والكتابي، والتي (إعادة) هي وحدها الشرط الواقف لإنقاذها من الموت الذي يتهدّدها.
جميع النشطاء المدافعين عن الأمازيغية واعون بأنها قضية سياسية ويحتاج إنصافها إلى قرارا سياسي، كما يدلّ على ذلك أن كل المكاسب التي حصلت عليها، في إطار “السياسة البربرية الجديدة”، كانت بقرارات سياسية. ومن هنا يدعو العديد من هؤلاء النشطاء نظراءَهم إلى المشاركة السياسية للمساهمة في صنع قرارات لصالح الأمازيغية قصد التفعيل الحقيقي لطابعها الرسمي، والعمل على وتنميتها ورد الاعتبار لها، لغة وثقافة وهوية وتاريخا. إذا كان هذا صحيحا، وهو كذلك، إلا أن تأثير مثل هذه القرارات التي قد تنتج عن هذه المشاركة، سيكون مقصورا على مجال “السياسة الصغرى” ولا يمسّ مجال “السياسة الكبرى” المحفوظ للقصر (انظر موضوع: “السياسة الصغرى لإحباط تعريب الأمازيغية بعد التخلّي عن مخزنتها“).
ومعروف أن القرارات الاستراتيجية تصنعها بالمغرب “السياسة الكبرى”، أي تصنعها المؤسسة الملكية، مع ما تضمّه من مستشاري الملك ومساعديه الاقربين. وإذا عرفنا أن الأمازيغية لا وجود لها ضمن هؤلاء المستشارين والمساعدين الأقربين، ليس بمعنى المنتمين إلى الأمازيغية والناطقين بها، بل بمعنى المقتنعين بأن المغرب دولة أمازيغية في هويتها، سنفهم لماذا فصل الخطاب الملكي بين مرحلتين من تاريخ الدولة المغربية: تاريخ أمازيغي طويل لما قبل اثني عشر قرنا، وتاريخ يبدأ منذ هذه الاثني عشر قرنا، حسب ما سبق شرحه. فهذا الاعتراف المحدود بالتاريخ الأمازيغي ينسجم مع “السياسة البربرية الجديدة”، التي تعترف بالأمازيغية في الحدود التي لا تمسّ “الثوابت العروبية” للدولة المغربية. ومما لا شك فيه أن هذا الاعتراف المحدود ليس قناعة شخصية للملك، وإنما هو قناعة للذين ساهموا في تحرير الخطاب من مساعديه الأقربين. ولهذا فغياب الأمازيغية، بالشكل الذي أوضحته، من المحيط الملكي حيث تُصنع القرارات الاستراتيجية، مثل تلك المتصلة بالثوابت الإيديولوجية للدولة، يجعلها تعيش إقصاء سياسيا حقيقيا كيتيمة ليس لها من يدافع عنها ويدعمها.
ورغم ذلك يبقى وصول المدافعين عن الأمازيغية إلى مناصب القرار المحلي والجهوي والتشريعي والحكومي، لمجال “السياسة الصغرى” عبر المشاركة السياسية، فرصة لإصدار قوانين داعمة للأمازيغية. وقد يؤدّي ذلك مستقبلا، إذا تغيّرت، نتيجة لنفس المشاركة السياسية للمناصرين للأمازيغية، موازين القوى السياسية لصالح الأمازيغية، أن يكون لها حضور داخل مجال “السياسة الكبرى”، وخصوصا أن الأمازيغية، كما هو معلوم، لا تهدّد سلطة القصر ولا تعمل على إضعافها ولا تشكّل أدنى خطر عليها. ولهذا فإن القصر لن يمانع في أن يكون المغرب مملكة أمازيغية بتاريخ كله أمازيغي، ما دام أن ذلك لن يمسّ بأسس نظام الحكم بالمغرب ولا بسلطات الملك كرئيس للدولة وممثلها الأسمى ورمز وحدة الأمة وضامن دوام الدولة واستمرارها (الفصل 42 من الدستور).
كاتب ومفكر وباحث ومناضل أمازيغي منحدر من منطقة الريف ومدير نشر جريدة تاويزا. ألف العديد من الكتب والمقالات التنويرية القيمة