عودة المغرب إلى إفريقيا: الرهانات والأبعاد


عاش المغرب خلال عقود من تاريخه المعاصر نقاشا حول الهوية تناول جميع مكونات البلد الثقافية والحضارية واللغوية والدينية، وذلك في ظل نموذج للدولة اعتمد أساسا على الإرث الاستعماري الذي تبنى النموذج الفرنسي، القائم على إنكار عناصر التنوع وتكريس هوية وطنية اختزالية مبنية على انتقاء عنصر وحيد وتهميش الباقي.

وأدى النقاش العمومي المشار إليه بعد ما يقرب من نصف قرن إلى انتقال المغرب دستوريا وسياسيا من منظومة الأحادية الثقافية واللغوية إلى اختيار تدبير التنوع والاعتراف بجميع مكوناته، ولعلّ من أبرز نتائج هذا الاختيار الديمقراطي الهام، ردّ الاعتبار للانتماء الإفريقي للمغرب الذي كان مهملا يطاله النسيان لمدة غير يسيرة.

ولقد أدى التنصيص في الدستور المغربي على المكون الإفريقي لهوية البلد سنة 2011، إلى تزايُد اهتمام المغاربة بانتمائهم القاري، حيث صار من البديهي عدم إمكان التشكيك في الجغرافيا، باعتبارها الامتداد المادي الذي نعيش فوقه، فالمغاربة أفارقة الهوية بانتمائهم إلى الأرض التي تحدد قبل غيرها من العوامل والمكونات هوية السكان.

ولعل أهم العوامل لهذا الجحود المحض إيديولوجي تجاه الهوية الإفريقية 4 عوامل يمكن توضيحها كالتالي:

  • وجود الصحراء الكبرى التي كانت تفصل منذ قرون طويلة المغرب عن بلدان جنوب الصحراء، مما أدى إلى جعل التوغل في اتجاه الجنوب مليئا بالمخاطر بسبب الصحراء الشاسعة ووعورتها. غير أن هذا العامل لم يمنع من جعل الصحراء نفسها معبرا وقنطرة في اتجاه الجنوب في لحظات عديدة من التاريخ، بفضل التبادل التجاري والثقافي والديني.
  • الارتباط بالمشرق بعد انتشار الإسلام في شمال إفريقيا، مما خلق امتدادا حضاريا وثقافيا بين الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وكان العامل الديني من أكبر الأسباب التي جعلت المغرب مشدودا منذ قرون إلى المركز الثقافي المشرقي، وأدت بالتالي إلى جعل أواصر الارتباط بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء أقل زخما مما كانت عليه في شمال إفريقيا.
  • جهل المغاربة باللغات الإفريقية لجنوب الصحراء، في مقابل استعمالهم للغة العربية في مؤسسات الدولة وفي الثقافة الكتابية، وبقاء قبائل الأدغال الإفريقية على ثقافاتها القديمة الأصلية، متحصنة في حزامين اثنين، حزام الصحراء وحزام الغابات الاستوائية.
  • اندلاع الصراع بين المغرب والجزائر سنة 1975 بسبب مشكل الصحراء، والذي أدى إلى انسحاب المغرب من “منظمة الوحدة الإفريقية” كما كانت تسمى آنذاك في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، حيث زاد هذا القرار من عزلة المغرب إفريقيا، وسمح للدبلوماسية الجزائرية والليبية العمل بنجاح ضدّ المصالح المغربية في إفريقيا.

لقد كان للمغرب تاريخ زاخر في علاقته بإفريقيا جنوب الصحراء، حيث أدى التفاعل مع العمق الإفريقي جنوب الصحراء إلى تأثير ملموس في التشكيلة السكانية المغربية، كما تعمق الطابع الإفريقي للثقافة المغربية من خلال التبادل الذي اتخذ أبعادا متعددة دينية وثقافية وتجارية مع مناطق الساحل وبلدان جنوب الصحراء التي كان المؤرخون يسمونها “بلاد السودان”.

ويمكن القول بعد ذلك الانقطاع التاريخي إن مغرب اليوم يعيش ما يمكن تسميته بـ”الصحوة الإفريقية” للمغرب، تضع فيها الدولة المغربية تصورا عمليا لاستعادة أدوارها في القارة الإفريقية، واستعادة الوعي بالانتماء إلى إفريقيا باعتباره جزءا من الوعي الوطني العام لدى المغاربة.

وفي هذا السياق، يمكن أن نشير إلى الرهانات السياسية والاقتصادية والثقافية الهامة التي أصبحت بارزة بوضوح في توجهات الدولة المغربية نحو إفريقيا خلال العقد الأخير على وجه الخصوص:

  • ثمة اتجاه سياسي واقتصادي أصبح أكثر اقتناعا بضرورة لعب دور استراتيجي طليعي في إفريقيا، وما جعل هذا الرهان أكثر بروزا مسلسل الشدّ والجذب مع الجارة الجزائر، التي تراجع دورها نسبيا في الآونة الأخيرة. ويبرز هذا التوجه الاقتصادي والسياسي بوضوح في عدد الاستثمارات التي تشرف عليها بنوك مغربية وأصبحت تستحوذ على نصيب الأسد في المشاريع الاقتصادية في جنوب الصحراء، مما أزعج الشركات الفرنسية التي شعرت بمنافسة حقيقية من المغرب في إفريقيا مؤخرا.
  • هذا التوجه السياسي الاقتصادي تزامن مع اهتمام كبير بالبحث العلمي لمعرفة إفريقيا أكثر من ذي قبل، مما انعكس على المقررات والبرامج الدراسية التي أصبحت تعمل على ردّ الاعتبار تبعا لذلك لعدد كبير من المعطيات التاريخية والجغرافية والأنثربولوجية المتعلقة بدول جنوب الصحراء، وربط الكثير من الظواهر الثقافية المغربية بجذورها الصحراوية – الإفريقية، إضافة إلى تمكين الباحثين المغاربة من توفير المعطيات الضرورية والوثائق اللازمة لإعادة نسج علاقات جديدة مع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، مبنية على أساس الانتماء المشترك للقارة السمراء.
  • في هذا الاتجاه نفسه يمكن تسجيل أن اعتراف الدولة المغربية بالمكون الثقافي واللغوي والأمازيغي قد جعل انتماء المغرب إلى إفريقيا أكثر قوة، حيث تعتبر الأمازيغية بوصفها لغة وثقافة وهوية إفريقية إرثا عريقا يشدّ المغرب إلى انتمائه القاري.

والسؤال المطروح هو : هل يمكن لمراهنة المغرب على إفريقيا أن تسمح له بالانتقال نحو نموذج اقتصادي وثقافي مغاير وأكثر دينامية؟


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments