دراسات في الأدب الحكائي الأمازيغي.


يعد الأدب الحكائي الأمازيغي من أغزر وأغنى الآداب الحكائية العالمية، أدب قال عنه العلامة ابن خلدون: ” وكثير من أمثال هذه الأخبار لو انصرفت اليها عناية الناقلين لملأت الدواوين” (1)، لكن مع الاسف ضاع الكثير منها بسبب عوادي الزمن.

أدب حكائي يمس أغلب جوانب الحياة الانسان الأمازيغي ويعبرعن رؤاه الى الحياة والى الوجود.

و للتعريف بهذا الأدب الحكائي أرتأيت تقديم سلسلة من الدراسات التعريفية بهذا الأدب الحكائي.

1- الدراسة الأولى:

يزخر الأدب الحكائي الأمازيغي بالكثير من الحكايات التعليمية والتربوية الموجهة للطفل في سن معينة (بحكم أن بعض الحكايات تروى لمتلقيها حسب أعمارهم، إذ توجد مثلا بعض الحكايات التي لا تروى الا للبالغين مثل حكاية ” حماد أحرام” أي أحمد الحرامي).

حكايات تعليمية تروم تعليم الطفل المغربي كفايات وتعلمات مرتبطة إما بواقعه الطبيعي (كأن تعلمه بعض القوانين الطبيعية على شكل احداث سردية حكائية) أو مرتبطة بواقعه الاجتماعي (كأن تعلمه مبادئ العلاقات الاجتماعية .. )، أو مرتبطة بطرق واساليب التعلم نفسها ( كأن تعتمد الحكاية على هدف أساسي هو تمرين الطفل على عملية التذكر كما في حكاية ” الذئب و الرعاة” المدونة في كتاب ” عيشة مي ييغد” الصادر سنة 2010 من طرف المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية)…

ولكل حكاية هدفها التعليمي والتربوي الخاص بها، وهذا النوع من الحكايات التعليمية الخاصة بالطفل دون السابعة او الثامنة من عمره، تبنى وفق انساق محددة معروفة.

من بين هذه الأنساق ما يتم الربط بين عناصره أو متتالياته الحكائية برباط محدد وفق الهدف التعليمي المرتجى، حيث يشترك فيه كل عنصر مع العنصر الذي يليه بخاصية محددة، كأن ينبني الرابط على خاصية سبب ونتيجة، أو على خاصية التضاد الطبيعي (مثل: الفأر/ القط. الماء/ النار…)، أو على خاصية علاقة طبيعية اي ربط نوع طبيعي بنوع آخر مرتبط به كأن نربط البرسيم بالماء، أو ربط عنصرين بعلاقة وظيفية(مثل: الكلب والراعي)… أو ربط كل مناسبة اجتماعية بما يناسبها( تحية أو تهنئة أو تعزية…).

ويزخر الأدب الحكائي الأمازيغي بهذا النوع السردي الحكائي الذي يسير فيه الحكي على نسق حكائي محدد يعتمد على متتاليات حكائية تعتمد على تقابلات خاصية من هذه الخاصيات السابقة ( الشيء وضده، السبب والنتيجة، قل ولا تقل في المناسبات … )

وغالبا ما يرد هذا النمط السردي في الحكايات الأمازيغية الموجهة للأطفال بالنسبة لأطفال ما دون السابعة أو التامنة.

فمن النماذج التي يربط فيها الحكي العناصر الحكائية برابط الضدية، نجد حكاية ” أزان للي يوگين ئمنسي” اي الطفل الذي رفض تناول عشاءه. هذه الحكاية هي حكاية امازيغية من منطقة القبايل الأمازيغية بالجزائر، دونها جوزيف غيڤيير Josephe Riviere سنة 1882 بعنوان ” le petit enfant” في كتابه: ” contes populaires kabylie de djarjoura ” (2)، كما انها تحكى في بعض المناطق بالمغرب (مع تغيير في بعض شخصسياتها)، وتم جعلها نصا للتدريس في مقررات التلاوة المدرسية سلسلة “اقرأ” مستوى الابتدائي الأول في التعليم الابتدائي بالمغرب في الستينات والسبعينات من القرن الماضي بعنوان ” أكلة البطاطس”.

النسق الحكائي لهذه الحكاية الأمازيغية بني وفق التضاد الموجود في الطبيعة، لأن هدف الحكاية هو تعليم الطفل ضمنيا :

– إن الطبيعة تعتمد على قانون التوازن المبني على الاضداد أي أن لكل شيء ضده.

– سيرورة الطبيعة تعتمد على هذا القانون، وكل خلل في هذا القانون يؤدي إلى التفكك.

فهذه الحكاية جاءت وفق النسق الحكائي التالي، وهو أحد الأنساق الحكائية التي تبنى عليه بعض الحكايات الامازيغية الموجهة للطفل:

الأم تطلب من ولدها:

– كل عشاءك.
فيجيبها طفلها:
– أنا لن آكل العشاء.
فتتجه الأم صوب العصا:
– اضربي الولد.
وتجيبها العصا:
– أنا لن أضرب الولد.
وتتجه الام الى النار.
– احرقي العصا.
وتجيبها النار:
– أنا لن احرق العصا.
وتتجه الأم الى الماء.
– إطفئ النار.
ويجيبها الماء:
– أنا لن أطفئ النار.
وتتجه الأم الى البقرة:
– اشربي الماء.
فتجيبها البقرة:
– أنا لن أشرب الماء.
وتتجه الأم الى السكين.
– اذبح البقرة.
فيجيبها السكين:
– أنا لن أذبح البقرة.
وتتجه الأم الى الحداد:
– كسر السكين.
فيجيبها الحداد:
– أنا لن أكسر السكين.
وتتجه الأم الى الحبل:
– اشنق الحداد.
فيجبها الحبل:
– أنا لن أشنق الحداد.
وتتجه الأم الى الفأر:
– اقرض الحبل.
فيجبها الفأر:
– أنا لن أقرض الحبل.
وتتجه الأم الى القط:
– كل الفأر.
فيجيبها القط:
– نعم سآكل الفأر.

وعندما سمع الفأر جواب القط، قال للأم: أنا سأقرض الحبل، وقال الحبل. أنا سأشنق الحداد، وقال الحداد: أنا سأكسر السكين، وقال السكين: أنا سأذبح البقرة، وقالت البقرة: أنا سأشرب الماء، وفال الماء: أنا سأطفئ النار، وقالت النار: أنا سأحرق العصا، وقالت العصا: أنا سأضرب الولد، وقال الولد: أنا سآكل العشاء.

فأكل الولد عشاءه، ونام.

( الحكاية بهذا الشكل لن تنتهي، لذلك عليها أن تتوقف عند شخصية تكن العداء الطبيعي لشخصية أخرى، وهنا في الحكاية توقف الحكي عند القط العدو الطبيعي للفأر، أي يجب العودة إلى قانون الطبيعة المبني على التوازن والتضاد)ن لأن الطبيعة تسير وفق ناموسها الازلي، فالتضاد بين الشيئين هو قانونها السرمدي، وعبرت عنه الحكاية الأمازيغية بطريقتها الحكائية الفنية، الشيء الذي يعكس غنى الادب الحكائي االأمازيغي.

كثيرة هي الحكايات الأمازيغية التي حيكت وفق هذا النسق الحكائي الذي صيغت وفقه الحكاية الذي ذكرنا، منها مثلا حكاية: ” تافقيرت د ئكرو نس” اي “العجوز وجديها” وهي مشهورة في الأدب الحكائي الأمازيغي المغربي، وهي نفس حكاية السابقة مغ تغيير في بعض شخصياتها.

يعد الأدب الحكائي الأمازيغي من أغزر وأغنى الآداب الحكائية العالمية، أدب قال عنه العلامة ابن خلدون: ” وكثير من أمثال هذه الأخبار لو انصرفت اليها عناية الناقلين لملأت الدواوين”، لكن مع الاسف ضاع الكثير منها بسبب عوادي الزمن.

أدب حكائي يمس أغلب جوانب الحياة الانسان الأمازيغي ويعبرعن رؤاه الى الحياة والى الوجود. وللتعريف بهذا الأدب الحكائي أرتأيت تقديم سلسلة من الدراسات التعريفية بهذا الأدب.

2– الدراسة الثانية: رمزية القط في الحكايات الأمازيغية.

أهم الشخصيات الحيوانية في الحكايات التربوية الأمازيغية الموجهة للأطفال هي شخصيتا القنفذ والذئب اللتان خصص لهما الادب الحكائي اكثر من 20 حلقة حكائية من سلسلة حكائية مشهورة لهما.

في هذه السلسلة، يلعب فيها القنفذ دور الحكيم الداهية الحامل لسمات الدهاء الايجابي يوظفه وفق الاسس الأخلاقية والاجتماعية المتفق عليها، اي انه يمثل هنا دور الحافظ على النظام الاجتماعي وعلى المنظومة الثقافية التي تسير المجتمع، في حين يلعب الذئب دور القوة الخالقة للفوضى أحيانا وفي نفس الوقت يحمل سمات المكروالدهاء السلبي الذي يوظفه لمصلحته ولو على حساب القيم.

شخصيتان تقابلهما في الأدب العربي شخصية الثعلب كما نجدها في كتاب “كليلة ودمنة” الهندي الأصل لابن المقفع ( سنخصص دراسة لاحقة لشخصيتي القنفذ والذئب).

رأينا في الحلقة الأولى كيف تسلسلت الأحداث في إحدى الحكايات الأمازيغية التي بنيت وفق نسق حكائي معروف خصص في الادب الحكائي الأمازيغي لتنمية ذاكرة الطفل وشحذها في المرحلة الثانية من مراحل تطوره الفكرى والعقلي حسب نظرية جان بياجي في التطور المعرفي.

الحكاية هي “أزان يوگين ئمنسي” أي الطفل الذي رفض عشاءه، او ” le petit enfant” (2) كما دونها Josèphe Rivière من منطقة القبايل الامازيغية بالجزائرسنة 1882، أو ” أكلة البطاطس” المقررة كنص في الكتاب المدرسي المغربي للسنة الأولى ابتدائي ، سلسلة ” إقرأ ” في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.

ورأينا كيف بنيت الاحداث في النصف الأول من هذه الحكاية وفق مسار يخرج عن قانون الطبيعة القائم على التضاد الى ان وصلت الاحداث الى شخصية القط ليعيد هذه الاحداث الى مسارها الطبيعي اي الى وضعها الطبيعي القائم على صراع الاضداد.

ولكن لماذا القط هو من سيرجع المسارفي الحكاية الى وضعه الطبيعي لتخضع الاحداث للقانون الطبيعي؟

يحمل القط في الاساطير والحكايات الأمازيغية خاصيتين متضادتين هما: الألفة والتوح. ففي دراسة للباحث محمد أوسوس في كتابه ” كوكرا في دراسة الميثولوجيا الأمازيغية” (3)، أورد فيه أن القط في الحكايات الأسطورية الأمازيغية يعيش هاتين الحالتين المتناقضتين والمتصارعتين كما أورد سبب العداوة بين القط والفأر حسب الحكايات الاسطورية الامازيغية، وهذه العداوة هي التي وقفت فيها الاحداث التي خرجت عن القانون الطبيعي في حكايتنا السابقة ليرجعها القط الى مسارها الطبيعي.

تقول الحكاية الاسطورية الامازيغية التي أوردها الباحث محمد اسوس في كتابه السابق بأن الأفعى كانت تسكن بجوار قط وفأرة، وكانا زوجين سعيدين، فانتابت الغيرة هذه الحية من وفاقهما، فأرادت التفريق بينهما. لذلك أخبرت مرة الفأرة بأن القط يخونها مع احدى القطات، فطلبت منها أن تقص شعيرات من شاربه أثاء نومه لتصنع لها تعويذة منها. واتجهت الى القط فأوهمته بأن الفأرة أخبرتها بانها ستقتله تلك الليلة. تظاهر القط بالنوم، وأحس بالفأرة تقترب منه وفي يدها سكين، إذ ذاك تأكد مما أخبرته به الأفعى، فوثب وقتل الفأرة. واسرعت الأفعى الى الفيران فأخبرتها بما فعل القط، فهبت وقتلت القط. ونقلت الأفعى ما وقع الى القطط فهبت بدورها تطارد الفئران للانتقام، ومنذ ذلك الحين بقيت العداوة الشديدة بين الطرفين. أما الأفعى، فبسبب هذا الجرم الذي أحدثه لسانها، فقد انفلق لسانها الى قسمين.

وفي حكاية أمازيغية أخرى اوردها هذا الباحث في كتابه السابق صفحة 283، تفسر العداوة الشديدة بين القط والفأر مفادها ان القط وضع لدى الفأر الخياط قماشا جميلا ليصنع له منه ثوبا، لكن الفأر بدأ يقرض منه كل يوم قطعة، وبدأ يماطل القط، وأمام تهديد القط له، صنع له الفأر مما تبقى من الثوب قطعة وضيعة، فلما رآها القط انقض عليه لالتهامه، فهرب الفأر الى جحره وتوارى فيه، ومنذ ذلك الحين نشأت هذه العداوة الشديدة بين القط والفأر. وهناك حكايات أخرى تفسر هذا العداء الطبيعي بين القط والفأر.

هذا من الجانب التفسير الاسطوري للعداوة المستحكمة بين القط والفأر، ومن الجانب الآخر المتعلق بثنائية الطبع والتطبع اللتين أي التوحش والألفةلدى القط، فهو غالبا أليف، لكنه أحيانا تنتابه حالات التوحش حين يغلبه طبعه (والطبع يغلب التطبع)، وهو ما عبرعنه مثل امازيغي يقول ” ئغت ؤر يوفي أموش ئنا تچا” أي إذا لم يستطع القط الوصول الى قطعة اللحم المعلقة أمامه (غريزة التوحش) قال بأنها نيئة (التبرير الثقافي). ومنها كذلك الفكرة السائدة التي تقول بأن الكلب يبقى دوما وفيا لصاحبه في حين ان القط يمكن ان يتنكر له بمجرد أن يجد مكانا افضل من الأول.

طبيعة الألفة والتوحش هذه ترد في حكاية امازيغية بعنوان ” موزيا” المدونة في كتاب “موزيا”(4)، وتتحدث هذه الحكاية التي تتضمن بعض التفسيرات الاسطورية عن فتاة وقطتها.

تقول الحكاية، إن فتاة واسمها “موزيا” وجدت حبة قمح أو حبة شعيرأثناء كنس منزلها ، فنادت على قطتها التي تؤنسها لتقاسمها الحبة (للدلالة على الألفة) فوضعت الحبة بين أسنانها لتقسمها ( وتفسرهذه الحكاية سبب الفلقة أو التجويف الذي يوجد وسط الحبة الى موضع أسنان موزيا عندما ارادت تقسيم الحبة بينها وبين قطتها)، لكن القطة لم تستجب لنداءها رغم سماعها له. فلما لم تستجب لندائها أكلت الفتاة الحبة، فانتقمت القطة منها بإطفاء موقد البيت بمائها(غلبة التوحش على القطة، فالنار هنا رمز للمعرفة وللثقافة، وهو ما تحدثت عنه اسطورة بروميتيوس الذي سرق النار من الآلهة وأعطاها للبشر.. )، فاضطرت معه الفتاة للخروج من منزلها (من الثقافة الى التوحش) للبحث عن النار عند الأسد (التوحش/ الطبيعة) الذي عزم على افتراسها بعد ان منحها جذوة النار، ليتتبع خطواتها نحو منزلها… وتنتهي الحكاية الى نجاة الفتاة بعد مجيء اخوتها بعد أن حملت إليهم انثى غراب رسالة اختهما وهي عبارة عن خاتمها فيهبوا الى نجدتها.

إطفاء النار هنا من طرف القطة هو عودة إلى طبيعة التوحش الكامنة فيها، اي اطفاء نار المعرفة والحكمة التي استطاع بها الإنسان ان يمتلك سرا من اسرار الآلهة والذي سرقه برومتيوس ووهبه للبشر حسب الاساطير اليونانية.

اذن رمزية القط في الحكايات الأمازيغية ترجح أحيانا طبيعة التوحش الكامنة فيه رغم طبيعة الألفة التي يبديها؛ وهو ما يفسر وصول مسار الأحداث في الحكاية الامازيغية نوضوع الدراسة الاولى اي حكاية ” أزان يوگين ئمنسي” أو “أكلة البطاطس”( بعنوان النص المقرر في التلاوة المفسرة إقرأ للسنة الاولى من التعليم الابتدائي بالمغرب سنوات الستينات والسبعينات) إلى القط ليوقف المسار غير الطبيعي للأحداث وبالتالي ليعيد الحكي الى بدايته ، وليرجع الاحداث إلى شكلها الطبيعي اي التضاد الذي تقوم عليه الطبيعة، والتضاد هنا يعني أن على القط التهام الفأر، وهو الوحيد الذي سيقوم بهذه المهمة المتعلقة بإرجاع الاحداث الى وضعها الطبيعي.

الهوامش:

1- تاريخ ابن خلدون، دار الكتاب النلباني، 1999، المجلد السادس، ص175.
2- Josephe Riviere , Recueil de contes populaires de la Kabylie du Djurdjura, Ernest Leroux, Editeur, Paris, 1882.
3- محمد اوسوس، كوكرا في الميثولوجيا الأمازيغية، منشورات المعهد الملكي للثقافة الامازيغية، 2006، دار المعارف، الدار البيضاء، المغرب.
4- الحسن زهور، موزيا، مطبعة السلام، أكادير- المغرب، 1994.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments