رهانات الأدب الأمازيغي


مدخل عام:
ينعت بالأدب الأمازيغي الشفوي جميع أشكال الإنتاج الرمزي الملفوظة والمعبّر عنها شفاهيا باللغة الأمازيغية، كالشعر والحكاية والمثل واللغز، والتي ظلت تتوارث قرونا طويلة عبر التداول الشفهي من جيل إلى جيل، وتتميز بالخصائص العامّة التي يتصف بها الإبداع الشفوي في مختلف الثقافات، ونعني بها :

  • كونه إنتاجًا جماعيًا في معظمه لا يُنسب إلى شخص بعينه، وحتّى عندما يُنسب إلى مبدع محدّد كما في الشعر مثلاً، فإنه يكون مصاغًا حسب قواعد ومعايير جمالية محدّدة سلفًا تنتسب إلى الجماعة وتُتوارث عبر الأجيال.
  • كونه إنتاجًا يتّسم بالعفوية، حيث لا يُؤطّره وعي نظري مدرسي مسبق، بقدر ما يخضع لدواعي التقليد الشفوي وتلقائية الحياة اليومية.
  • كونه مرتبطًا في معظمه بالغناء والموسيقى، حيث يشكل الشعر والحكاية والمثل واللغز مركّبا يجد مكانه الأصلي في الرقصة والقصيدة المغنّاة.

وإذا كان الأدب الشفهي الأمازيغي قد ظل قرونًا طويلة رهين التداول المحكي المنطوق، حيث لم يُشرع في تدوينه إلاّ في بداية القرن المنصرم مما أدّى إلى ضياع معظمه، فإنّ ما وصلنا منه يعطي صورة واضحة عن أدب عريق مشرب بمسحة جمالية قوية، وبعمق إنساني يعكس بشكل ناصع حياة الإنسان الأمازيغي بمختلف أبعادها المادية والرمزية، ونظرته إلى العالم، حيث يتناول هذا الأدب مناحي الحياة الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية مبرزًا القيم الثقافية للجماعة الأمازيغية عبر مختلف الأغراض والتيمات التي يتناولها الأدب الأمازيغي الشفوي بكل أجناسه المذكورة، كالحق والعدل والوفاء والشجاعة والحرب والوصف إلخ…

وإذا كان المغاربة لم يهتموا بدراسة هذا الأدب الشفوي الأمازيغي من قبل بقدر ما كان مرتبطًا بنمط حياتهم اليومية، فإنّ أول من اهتمّ به على صعيد الجمع والتدوين والمقاربة النقدية والدراسة التحليلية هو الباحث الأجنبي[1] منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، ولم تظهر بوادر الاهتمام العلمي لدى المغاربة بدراسة الأدب الشفهي الأمازيغي إلاّ سنوات بعد الاستقلال .

ويمكن القول أنّ الدراسة والبحث المنهجي والعلمي في هذا المجال قد تطورا من الجمع والتدوين والتصنيف والوصف، إلى الدراسة التحليلية فالنقدية التي تحاول اليوم استكناه الخصائص الجمالية والأبعاد الرمزية لهذا الأدب.

ومن ضمن جميع الأنواع الأدبية الأمازيغية يعتبر الشعر أكثرها تداولا وغزارة إنتاج، فالشعر الأمازيغي بنوعيه الشفهي والمكتوب يشغل معظم مساحة الإبداع الأدبي الأمازيغي في مختلف فروع اللغة الأمازيغية، فما هي خصائص الشعر الأمازيغي الشفاهي وأنواعه ؟ وكيف تم الانتقال من الشفاهة إلى الكتابة بالأمازيغية ؟ ما هو السياق السوسيوثقافي لهذا الانتقال ؟ وما هي أبعاده و تأثيراته على بنيات الثقافة الأمازيغية ؟ وما هي آفاقه ؟ وكيف تتحدد خصائص الشعر الأمازيغي الحديث والمكتوب ؟ وما هي عوائق هذا الانتقال وما رهاناته الكبرى ؟

الشعر الأمازيغي الشفوي

لا توجد في اللغة الأمازيغية كلمة واحدة تدلّ على الشعر بجميع أنواعه وأصنافه، ولكنها تحتوي على الكثير من المصطلحات الدالة على الأنواع الشعرية المتداولة في المناطق المختلفة كما سيأتي.

يتميّز الشعر الأمازيغي الشفهي بغناه وتنوّع أشكاله وأوزانه وإيقاعاته تنوعًا شديدًا من منطقة إلى أخرى، وهو في عمومه شعر لا ينفصل عن الغناء والإنشاد حيث توجد أنواع شعرية تغنى بآلات وترية وإيقاعية، وأنواع أخرى يتم إنشادها بدون آلات، كما أن ثمة أنواع من الشعر ترافق الرقص والغناء والعزف جميعا[2]. ويمكن تصنيف كل هذه الأشكال الشعرية الغزيرة إلى ثلاثة أنواع رئيسية :

1 شعر القصيدة المطوّلة المغنّاة سواء التي تصحبها آلات موسيقية، كما هو شأن قصيدة “الروايس” Rways بمنطقة “سوس” جنوب المغرب والمسماة “أقصيد” Aqsid (وهي تسمية مشتقة من الكلمة العربية القصيد)، أو شعر “ثامديازت” Tamdyazt أي القصيدة المغناة بمنطقة جبال الأطلس المتوسط والجنوب الشرقي، والتي تسمى أيضا “ثايفارت” Tayffart والتي قد يتم إنشادها بمصاحبة آلات موسيقية أو بدونها. وفي شمال المغرب بمنطقة الريف المحاذية للبحر الأبيض المتوسط نجد لفظة “إزران” Izran الدالة على الشعر المغنى بشكل عام سواء كان قصيدة أو مقطوعات شعرية قصيرة كما هو الحال في “تيقسيسين” Tiqssisin.

وقد تحمل القصيدة المطولة مضامين وتيمات عديدة كما قد تتناول موضوعا واحدا من البداية إلى النهاية، وأهم التيمات التي تحظى باهتمام الشعراء الشفويين الغزل وشعر الحب وكذا الشعر السياسي الذي يركز على نقد السياسات المتبعة وتعرية أوضاع الفئات الهشة في المناطق القروية المهمشة أو في بعض المدن.

وتعتمد القصيدة المطولة من الناحية الفنية على الصور المبنية على أنواع التشبيه والاستعارة التي تصل أحيانا حدّ الإغراب الباعث على إعمال الفكر لحلّ ألغازها، مما يجعلها أشبه بشفرة من الرموز يبعث بها الشاعر ويكون على المتلقي تفكيكها لفهم مكنوناتها، ويعتبر معيار الرمزية هذا ميزة الشعراء الكبار خلافا للذين هم أقل أهمية، والذين يميلون في الغالب إلى التقريرية والتعبير المباشر.

وإذا كان بعض النقاد قد ميزوا “ثايفارت” عن “ثامذيازت” بكون الأولى أكثر إغراقا في الرمزية والصور المقنّعة، حيث اعتبروا بأن “ثايفارت” في اشتقاقها اللغوي من جذر “فّر” أي خبأ وأخفى، إلا أنّ وجود الكثير من “ثيمذيازين” بنفس الخصائص تجعل التمييز أمرا شكليا لا غير، ما يدفعنا إلى التأكيد على أن الكلمتين هما في الحقيقة مترادفتان في معناهما.

2 شعر الحوار العفوي المرتجل ويسمّى شعر “أنعيبار” Anaaibar الذي نجده عند “إماريرن”[3] Imarirn الذين هم شعراء “أحواش”[4] بالجنوب المغربي، وكشعر “إزلان” Izlan الذي يلقيه “إنشّادن” Inccaden فن “أحيدوس”[5] بالأطلس المتوسط.

ويقوم فن “أنعيبار” على تلقائية النظم وسرعة البديهة والقدرة على إيجاد الردّ الشعري المناسب في ظرف وجيز لا يتعدى بضع ثوان، ويرتبط فن النظم المرتجل بفنون الرقص الجماعي التي تضمّ، علاوة على الشعر والنظم المرتجل، عناصر الحركة والرقص والإيقاع واللباس، وخلافا لما هو متداول في وسائل الإعلام وبرامج التعليم المغربية، ليس “أحواش” و”أحيدوس” مجرد “لوحات فولكلورية راقصة”[6]، وإنما هو فرجة شعبية قوامها الكلمة الشعرية قبل كل شيء، وأساسها الحوار المنظوم، إذ لا شيء يمكن عمله في غياب الشعراء، فالرقص والتوقيع على الآلات لا يبدآن إلا بعد أن يقوم الشاعر بإنشاد أشعاره، والوصلة الراقصة ليست إلا فاصلا بين محاورة شعرية وأخرى، ولهذا يستحوذ الشعر في أحواش على نصيب الأسد، فإذا كانت الرقصة لا تدوم أكثر من خمس عشرة دقيقة في معظم الأحوال، فإن الحوار الشعري قد يمتد إلى ساعة كاملة أو يزيد .

ويقوم الشعر الحواري المرتجل على براعة الشاعر “أمارير” أو “أنشّاد” وقدرته على الإبهار القائمة على موهبته في الإرتجال، كما تقوم عملية النظم بالسليقة والطبع وبشكل لحظي وتلقائي على مهارات مكتسبة، وعلى ذكاء نوعي يتأتى للشخص عبر الإهتمام العاشق والتركيز البالغ منذ الطفولة، مما يخلق لديه ذاكرة شعرية تكون بمثابة الخزان النفسي اللاشعوري الذي يعتمد عليه في بناء الجمل الشعرية الجديدة ارتجالا وبسرعة فائقة.

الشعر المأثور الذي هو الشعر الذي توارثته الجماعات والأجيال عن بعضها البعض بالحكي الشفوي والتداول اليومي، ونذكر3 منه مثلا شعر “تازرّارت”Tazrrart بالجنوب الذي هو عبارة عن ثنائيات شعرية ترتبط بالطقوس الاحتفالية والذي موضوعه تبادل كلمات الترحيب والمودّة والمحبة، ومنه أيضا شعر “تاسوغانت” Tasughant بالجنوب أو “وارّو” Warru بالمغرب الأوسط أو أسالاّو Asalaw المرتبط بطقوس العرس وعاداته وهو خاص بالنساء، ويقابل هذا النوع بالشمال “إزران ن ربيوز” Izran n rbyuz حيث تتبارى النساء خلال العرس في إبراز محاسن أبنائهن أو إخوتهن. وجدير بالذكر أن الفرق بين هذا النوع من الشعر التراثي وبين فن “أنعيبار” المذكور آنفا هو أن هذا الأخير شعر يتم إبداعه لحظيا بينما الشعر الطقوسي المأثور يتضمن حوارا بين طرفين لكنه يعتمد على صياغات شعرية مأثورة ومصاغة من طرف مؤلف مجهول منذ قرون، حيث لكل شعر جوابه المعلوم.

كما نجد شعر “ثاماوايت” Tamawayt بالمغرب الأوسط الذي يكون في الغالب شعرا مأثورا ينشد في شكل موّال شجيّ. وبجانب هذا نجد من أنواع الشعر المأثور شعر النكتة الساخرة وشعر الألغاز الذي يسمى “تيغونيوين” Tighuniwin والحكاية الشعرية التي تروي حكاية مصاغة في قالب شعري أخاذ مصحوب بالغناء، إضافة إلى الشعر الحكمي الذي صيغ في شكل أمثال منظومة يحفظها الناس عن ظهر قلب، وشعر الأذكار الصوفية والدينية الذي يتضمن المدح النبوي أو ذكر الأولياء والصالحين أو أشعار الوعظ والتوجيه الأخلاقي، وبجانب هذه الأنواع نجد أيضا الشعر الجنسي المتداول في مجالس السمر الخاصة وملتقيات الشباب.

ويتميز الشعر المأثور بأنه في الغالب عبارة عن مقطوعات قصيرة لا تتجاوز البيتين أو الثلاثة باستثناء القصيدة الحكائية التي تتجاوز ذلك. كما يتميّز شعر القصيدة “تامديازت” والشعر الحواري “أنعيبار” بغزارة الإنتاج وجِدّته، وهو وإن كان شعرًا ملتزمًا بضوابط إيقاعية وجمالية تقليدية إلاّ أنه يتضمن صورًا إبداعية مبتكرة وإيحاءات رمزية غنية وعميقة.

وإذا كانت القصيدة المطولة متنوعة في مضامينها وتيماتها بين الغزل والوصف والنقد الاجتماعي والسياسي، فإنّ شعر الحوار المرتجل يركز على ما هو لحظي وفوري، وينشغل أكثر بهموم الجماعة المتعلقة بالحياة الفلاحية والتدبير اليومي لشؤون القرية والقبيلة، كما قد يتجاوز موضوع الحوار الهموم المحلية إلى الوطنية والدولية كما هو الشأن في السياق الراهن، خاصة في أوقات الحروب والأزمات السياسية، بعد تطور وسائل الإعلام والإتصال وانتقال عدد من كبار الشعراء إلى العيش في الأوساط الحضرية.

وتنتظم أنواع الشعر الشفوي الأمازيغي أوزان غزيرة تربو على الثمانين، يرتبط كلّ منها بعدد لا حصر له من الألحان التراثية التي تنشد بها، ويلاحظ بأن تزايد الأوزان المبتكرة يرجع أساسا إلى ارتباط الشعر بالغناء وباستعمال الآلات الموسيقية التي تكون في العديد من الأحيان مصدرا لأوزان جديدة.

الأمثال الأمازيغية

“أوال ئدّْرن” Awal iddrn عبارة أمازيغية تعني “الكلام الحي الخالد”، ويقصد بها كل كلام حافظ عليه التداول اليومي واتخذ طابع الحكمة السائرة التي تصبح على كل لسان، بسبب ما تحمله من خبرات جماعية وما تحيل عليه من حلول جاهزة لمشاكل الحياة اليومية، ويستمدّ الكلام طابع الحياة والخلود من اعتقاد الجماعة أنّ تجربة القدماء والأوائل “ويلّي زرينين” Willi zrinin ، يمكن أن تظلّ مصدرًا ملهمًا لمبادئ السلوك وموجهًا لاختيارات الأفراد.

فالمثل الشعبي الأمازيغي هو خلاصة ما حصّلته الجماعة الأمازيغية ذات الثقافة والعادات الجمعية المشتركة من تجربة وحكمة على مرّ العصور.

ولا تتلخّص فعالية المثل الأمازيغي كقول حكيم ومميّز في عملية بنائه بقدر ما ترجع إلى تداوله وسعيه إلى نقل تلك الخبرة وترويجها، مما يكسبه سلطة ذهنية ونفسية على المتلقين. وهو بذلك يشبه الدرس الذي تمارس بها الجماعة تربيتها الذاتية، وتهيئ به أجيالها الفتية للدخول في نظام قيمها المشتركة.

وفي الثقافة الأمازيغية الشفوية، نوعان من الأمثال السائرة والخالدة، الأمثال النثرية التي تتميّز باقتضاب عبارتها وقوة سبكها، وبكونها مجهولة القائل وحاملة لحكمة جماعية، وتقترح حلا لمشكلة جزئية ووضعية إنسانية محدّدة. والأمثال الشعرية التي تتميز بنفس الخصائص المضمونية للأمثال النثرية غير أنها من حيث الشكل تتميز عنها بكونها أمثال منظومة على أوزان الشعر المتداولة عند الشعراء. كما أنها لا تُستعمل فقط في الخطاب اليومي كالأمثال النثرية، بقدر ما تدمج في سياق إنشاد الشعر أيضًا، حيث تحتلّ الأقوال الشعرية المأثورة مكانة خاصّة في قصيدة “الروايس” و”إمذيازن” أو في المحاورات الشعرية العفوية والمرتجلة في “أحواش” و”أحيدوس” : ويكُون هدف “الرايس” أو “أمارير” أو “أمذياز”، هو إحالة المستمع على خلاصة حكمة وصل إليها في موضوع إنشاده، وذلك عبر استعارة المثل الشعري وتوظيفه في سياق ملائم يجعل منه عنصرًا مكملاً لحكمة الشاعر نفسه ومبلغًا لمراميه التي لا تنفصل عن أهداف الجماعة.

كما يُستعمل المثل الشعري يوميًا من قِبل أعضاء الجماعة، حيث يُستحضر كحكمة جاهزة يُراد بها الحسم في موقف أو وضع معيّن، ويتّخذ الإيقاع الشعري والوزن وجمالية التعبير الفني في الشعر الأمازيغي، طابعًا مساعدًا في التأكيد على مصداقية الحكمة المتضمنة في المثل الشعري.

ويتناول المثل الأمازيغي على العموم كافة جوانب الحياة الإنسانية، حيث يتدخل موجها سلوك الفرد وفق مبادئ الجماعة في الحياة العملية والأسرية والاقتصادية والسياسية وكل تفاصيل اليومي. وبهذا يمكن القول إن المثل الأمازيغي هو ديوان خبرة وحكمة الجماعة الأمازيغية عبر العصور.

غير أن هذا لا ينفي كون بعض الأمثال المرتبطة ببنيات سوسيوثقافية تفككت خلال تحولات القرن الماضي، قد صارت متجاوزة بل ومتناقضة مع قيم المجتمع الحالي، وذلك مثل القيم المهينة للمرأة أو التي تحث على تكريس الميز بسبب اللون أو تلك التي ارتبطت بتقاليد العبودية والاسترقاق، والتي إن كانت تعطينا صورة عما عاشته الأّجيال السابقة، إلا أنها لم تعد تصلح للتداول باعتبارها حكما موجهة للسلوك الجماعي.

الحكاية الشعبية الأمازيغية

تتّصف الحكاية الشعبية الأمازيغية بنفس الخصائص العامة التي تميّز الحكاية الشعبية على العموم، فهي ذلك الحكي المتوارث عن أجيال متعاقبة منذ أزمنة قديمة والذي يسردُه الراوي أو الراوية، على مجموعة بشرية في وقت محدّد، وتتميز بكونها حكاية نثرية لأحداث خيالية هدفها التسلية، كما تلعب وظيفة تربوية في أحيان كثيرة.

ورغم أنّ الحكاية الشعبية تحتفظ عند مختلف الشعوب، غالبًا، بهيكلها العام، إلاّ أنها تتخذ خصائص مرتبطة بالسياق السوسيوثقافي للراوي والمتلقين.
ويمكن القول إنّ الحكاية الشعبية الأمازيغية تشكل أحد أهم أجناس الإبداع التراثي في الأدب الشفوي الأمازيغي. وتتميّز بالخصائص التالية :

  • أن زمن الحكي زمن ليلي، ويُعتبر هذا العنصر أساسيًا في الوجدان الشعبي، حيث ثمة مانع أسطوري للحكي نهارًا، وهو أنّ من يمارس الحكي خارج التوقيت الليلي سيصاب بتساقط شعر رأسه، ولعلّ هذا الميثاق غير المعلن، مصدره برنامج العمل المكتظّ لدى المرأة طوال اليوم، مما جعل المجتمع يوجّهها- بوصفها الراوي الرئيسي للحكايات- نحو ما يعتبره ضروريًا ويحظى بالأولوية.
  • أن المرأة هي الراوي الرئيسي للحكاية الأمازيغية بنسبة كبيرة، وهي بحكم ارتباطها بالأطفال، تصبح مصدر الحكي والإبهار والتسلية والتربية والتوجيه الاجتماعي أيضًا.
  • أنّ للحكاية الأمازيغية عتبة ومدخل لفظي يتكرّر دائمًا مع بداية كلّ حكي كمثل عبارة «أومِيّْن- د- أوميّْنْ» في جنوب المغرب، وعبارة «حجيت ماجيت… » في الريف، وهي عتبة ذات هدف سيكولوجي هو الاستقطاب النفسي للمتلقين وتهيئهم للاستماع إلى الحكاية بشوق.
  • أنّ الحكاية الشعبية الأمازيغية تكاد تقتصر على ثلاثة أنواع رئيسية :
  • الحكاية الحيوانية: التي أبطالها الحيوانات سواء المتوحشة منها أو الأليفة.
  • الحكاية العجائبية: التي تتضمن أحداثًا خارقة وشخصيات خرافية.
  • الحكاية الاجتماعية- التربوية: أبطالها البشر، وتقتصر على تقديم وقائع بسيطة بغرض استخلاص العبر الأخلاقية.

ومن أشهر الحكايات الشعبية الأمازيغية، حكاية “حمّو أونامير”[7] بالجنوب المغربي، أو سلسلة حكايات “أوشن د إنسي”[8] أي القنفذ وابن آوى بالأطلس المتوسط.

وإذا كان هذا التراث الأدبي الشفوي قد ظل لقرون رهين التداول الشفهي، حيث لم تهتم النخبة التقليدية المتعلمة من الفقهاء والعلماء بتدوينه بسبب احتقارهم للثقافة الشفوية وتعظيمهم للثقافة المكتوبة، إلا أن المرحلة الحالية عرفت تزايد اهتمام المجتمع المدني المغربي والدولة بالفنون التراثية العربية منها والأمازيغية، حيث أفردت لهذه الأخيرة مؤسسة خاصة هي “المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية” الذي أسسه الملك محمد السادس في 17 أكتوبر 2011، وعهد له من ضمن أوراشه الكبرى بجمع وتدوين التراث الأدبي الأمازيغي وتصنيفه وطبعه ونشره. وقد أصدر المعهد المذكور حتى الآن “أنطولوجيا الشعر الأمازيغي التقليدي” و”أنطولوجيا الأمثال الأمازيغية” و”أنطولوجيا الألغاز الأمازيغية”، إضافة إلى 280 إصدارا في مجالات اللغة والتربية والتاريخ والأنثروبولوجيا والفنون والترجمة.

رهانات الانتقال من الشفاهة إلى الكتابة

يمثل فعل الكتابة بالأمازيغية خطوة حداثية انتقلت بتراكيب هذه الثقافة من العفوية التي تختزل قيم وخبرات الجماعة وحكمتها في صيغ بلاغية جاهزة ومتوارثة، إلى تجربة الفرد وإحساسه الدرامي بالتميز والفرادة، من إنتاج الشبيه والحرص على الامتثال لنمطية القول وتقنيناته المحدّدة سلفا في التقاليد الشفوية، إلى النقد والمراجعة واستشراف الآفاق الممكنة والبحث الدائب عن البديل. وهكذا تأسّس مفهوم الحداثة في الثقافة الأمازيغية بناء على هذا الانتقال الذي كانت من ورائه عوامل يمكن إجمالها فيما يلي:

ـ بروز نخبة أمازيغية متعلّمة وحاملة لثقافة حديثة متعدّدة المشارب، بجانب الثقافة الأمازيغية الأصلية.

ـ ارتباط طموح المبدع الأمازيغي “المثقف” بحركة التحديث التي عرفها المجتمع المغربي ككل، والتي تتمثل في التحول الذي عرفته البنيات السوسيوـ ثقافية والإقتصادية وبنيات الوعي والسلوك.

ـ ظهور الوعي الهوياتي الذي نقل الأمازيغية من الحساسية والنعرة الجهويتين إلى منظومة التفكير الوطنية، ومن ثقافة البادية والانتماء القبَـلي إلى فكرة العصرنة والتحديث والانتماء إلى القيم الكونية.

وعلى المستوى التيماتي تجدُر الإشارة إلى أن الأدب الأمازيغي الحديث المشرّب بمسحة مأساوية عميقة قد ركز أكثر على تيمات الهوية والهجرة، كما نقل بدقّة تناقضات ما بعد الاستقلال، وتحولات الوعي والقيم في المجتمع المغربي.

كان لهذه العوامل أثر حاسم في ابتكار لغة جديدة للإبداع الأدبي الأمازيغي، وهي لغة تتجاوز أنماط التعبير المستهلكة في النص الشفوي التقليدي، كما أدّى ابتكار لغة إبداعية جديدة إلى تغيير مفهوم الشعر ذاته في الثقافة الأمازيغية بظهور تجربة الديوان الشعري الأمازيغي (مستاوي ـ أزايكو ـ الزياني، الطاوس) وإدخال أجناس أدبية جديدة لم تعرف من قبل في لغة الحكي المتداولة كالرواية والقصة القصيرة، وكان لهذا التحول في لغة ومفهوم الإبداع تأثير قوي على مفهوم الإنسان الأمازيغي وقيمه ونظرته إلى العالم.

غير أنّ هذا الانتقال الهام من الشفوي إلى المكتوب قد طرح بالمقابل العديد من المشاكل، ومنها ما يتعلّق بالتلقي والتواصل، وما يخصّ العلاقة مع التراث الشفوي بين القطيعة والإستمرارية، خاصة عندما نعلم بأن الانتقال إلى الكتابة في السياق الحديث قد تمّ في الأمازيغية بموازاة مع استمرار هيمنة الإبداع الشفوي وانتشاره.

كما طرح هذا الانتقال أيضا مشكلة “اللغة المعيار”، لغة الكتابة الموحّدة، خاصة بعد انطلاق تجربة تدريس اللغة الأمازيغية في المدارس المغربية سنة 2003، وانطلاق أوراش مأسسة الأمازيغية وتهيئتها رسميا داخل مؤسسة عمومية هي “ليركام”، حيث اتضح بشكل بارز أهمية توفر الكُتاب بالأمازيغية على قواعد مُمعيرة يعتمدونها في نصوصهم، ما أدّى إلى تقريب طرق الكتابة بين الكتاب المختلفين الذين كانوا في الأصل يكتبون لغتهم بطرق وحروف مختلفة.

الأدب الأمازيغي المكتوب (اللغة وأفق الرؤية)

كانت النصوص الأولى التي نشرها علي صدقي أزايكو في بداية السبعينيات تحمل إرهاصا أوليا بوعي فني وحساسية شعرية جديدة، تنطلق من فكرة تحديث الثقافة واللغة الأمازيغيتين وتطويرهما حسب حاجات السياق المعاصر آنذاك وتحديات المرحلة. وتكمن أهمية التجربة الشعرية لأزايكو في وعيها بضرورة حلّ المعادلة الصعبة المتمثلة في التجديد دون قطيعة مع الجذور، أي مع التراث الشفوي، وهو ما يفسر انطلاقه من العديد من المحددات الفنية للجملة الشعرية في النص الشفوي مع إعادة تشكيل المعنى وبناء الصورة وتركيب الجمل ورصف الكلمات وفق شفرة رمزية جديدة تستلهم في نفس الوقت التراث الشفوي والأدب الحديث المكتوب في اللغات الأخرى، وتختلف في قواعد تركيبها عن الجمل والعبارات المتداولة في التقليد الشفوي، وبهذا فتح الباب على مصراعيه أمام الإبداع الشعري الحديث باللغة الأمازيغية المكتوبة، وإمكان صياغة الصور الشعرية انطلاقا من الحياة وحرارة التجربة الإنسانية مع استلهام نماذج أدبية أخرى غير النموذج الشفوي التراثي الذي كان يفرض نفسه بسلطة التداول والسماع اليومي. وقد ساعد أزايكو على ذلك تشبعه بالتراث المحلي بمسقط رأسه من جهة وتعرفه عبر الثقافة المدرسية على نماذج مختلفة من الإبداع الشعري الحديث، وعلى التشبع بالقيم الأدبية والفكرية الجديدة التي أصبحت قيما كونية بحكم اختراقها لكل الثقافات.

فمن الناحية الإيقاعية والفنية نجد قصائد أزايكو الأولى التي ستنشر فيما بعد في ديوان “تيميتار” Timitar، قد تضمنت قصائد تحيل على التجربة الذاتية للشاعر وعلى رؤيته الشخصية للعالم وللأشياء، وذلك من خلال جمل شعرية تستمدّ إيقاعها من وحدات “تالالايت” التي تشكل إيقاعات الشعر التقليدي، لكن دون أن تكرسه أو تخضع لضوابطه بشكل صارم، كما نلمس تغير العلاقات بين الكلمات من النسق القديم إلى علاقات يحكمها منطق رؤية ثورية تجعل من الغريب والمستحيل في النص الشفوي واقعا فنيا حاضرا وملهما، وتخلق لدى المتلقي حيرة وارتباكا يدفعان به إلى تغيير علاقته بالنص وبأسلوب تلقيه الذي انتقل من القناة السمعية، قناة تلقي النص الشفوي المنشَد والمغنّى، إلى القناة البصرية التي تتعامل عبر مهارات القراءة مع نصّ مكتوب على مساحة مادية مجسدة. ومن الناحية التخييلية فقد صارت إيحاءات الصورة الشعرية في قصائد أزايكو مستمدّة من فضاء ثقافي واجتماعي أوسع، ومن مرجعيات مختلفة، مما جعلها أكثر غنى وجاذبية وتحفيزا لخيال القارئ.

أما من الناحية التيماتية فيمكن القول إنّ قصائد أزايكو الحديثة قد حفلت بصفة خاصة بانشغال عميق بالوطن وبالهوية، بل يمكن القول إنّ تيمة الهوية والبحث عن الذات هي التيمة الرئيسية التي تحتوي كل التيمات والموضوعات والمضامين الأخرى، و ليست صور الأمّ والأرض والنسر والمحبوبة وصور الشخصيات التاريخية وغيرها إلا تفريعات للصورة الرئيسية، صورة الذات الأمازيغية الضائعة والمحطمة، والتي تجرّ آلامها وآمالها المحبطة بحثا عن أفق ومتنفس للحياة، وهذا ما يفسر تجاور الصور المضيئة والقاتمة، صور الألم والتحدّي، الانكسار والتطلع إلى المستقبل، ويفسر بالتالي هيمنة مسحة حزينة على كل قصائد هذا الشاعر.

هذه الخصائص العامة التي تميز شعر “أزايكو” هي على العموم خصائص القصيدة الأمازيغية الحديثة، التي استطاعت أن تخطو خطوات حاسمة في مغامرة الإبداع واكتشاف الطاقات الكامنة في نسق اللغة الأمازيغية ومعجمها مع كل من محمد واكرار وأحمد الزياني على الخصوص، ثم مع الجيل الحالي من المبدعين الشباب.

وقد تلا نهضة الشعر الأمازيغي الحديث ظهور النصوص المؤسسة لإبداع أدبي نثري غني ومتنوع، سواء في الرواية أو القصة أو النص المسرحي، حيث استطاعت أعمال كتاب أمثال محمد شاشا ومحمد بوزكو والخطير أبو القاسم “أفولاي” ومحمد أوسوس وعلي إكّن ومحماد أكوناض وأحمد زاهد ولحسن زهور والعربي موموش وآخرين كثيرين، أن تؤشر لانطلاقة مرحلة جديدة من الإبداع النثري الأمازيغي بمواصفات عالمية.

ويمكن التعليق على الحيز الزمني الفاصل بين نهضة الشعر وظهور النصوص النثرية الأولى بثلاثة اعتبارات: الأول كون الشعر هو الأكثر هيمنة في الثقافة التراثية، حيث استقطب معظم الأصوات المؤسسة لتجربة الكتابة الإبداعية بالأمازيغية في السياق الحديث، والثاني هو إدراج الأمازيغية في التعليم حيث يبرُز بشكل واضح دور المدرسة في نهضة الفنون النثرية التي لها قابلية أكبر لتطوير اللغة الإبداعية من الشعر، إضافة إلى عامل ثالث هو توفر المؤسسات الداعمة للمنشورات الأدبية الأمازيغية مثل وزارة الثقافة والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وبعض الجماعات المحلية وكذا التنظيمات المدنية وخاصة رابطة “تيرا”[9] بأكادير.

أصوات نسائية واعدة

ومن أهم العوامل التي ساهمت في ترسيخ تجربة الكتابة الأدبية الأمازيغية الحديثة، ظهور العديد من الأصوات النسائية المتميزة بقوتها وبلاغتها الشعرية والنثرية وقدرتها على تجديد المضامين كما الصيغ التعبيرية، ولا شك أن بوادر النهضة الثقافية الأمازيغية الحديثة التي انطلقت على المستوى الرسمي منذ مطلع الألفية الثالثة، والتي من نتائجها إدراج اللغة الأمازيغية في المدرسة منذ 2003، وفي الإعلام منذ 2006، ودعم المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية للإبداعات الشبابية وتشجيعه للأصوات النسائية، وكذا ظهور تنظيمات مدنية تختص برعاية الأدب والأصوات الإبداعية الأدبية وتنظم أوراش الكتابة للشباب مثل رابطة “تيرّا” التي عقدت شراكة هامة مع وزارة الثقافة، كلها عوامل ساهمت بنصيب وافر في ظهور هذه الأصوات التي كانت قبلَ سنة 2002 لا تتعدى صوتا شعريا واحدا أصدر ديوانا هو صوت الشاعرة فاطمة الورياشي من الناظور، بينما تشغل الساحة الأدبية اليوم عشرات الأصوات المبدعة بالأمازيغية في الشعر والرواية والقصة والسيناريو والنص المسرحي، أصوات من مختلف مناطق المغرب نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر لويزا بوسطاش، خديجة أروهال، فاضمة فاراس، خديجة الكجدا، رقية تو، ملعيد عدناني، عائشة بوسنينة، فاطمة فايز، جميلة اريزي، مايسة المراقي، فاطمة إدلمودن، سعيدة فرحات، زهرة أيت باحا وأسماء أخرى كثيرة، حصد بعضها العديد من الجوائز الإبداعية في الشعر والنثر معا.

الأدب والفنون الأمازيغية

يمكن القول إن الفنون الأمازيغية بجميع أنواعها قد ساهمت بشكل كبير في الحفاظ على الثقافة والهوية الأمازيغيتين، وذلك لما تتميز به من عناصر خصوصية ملفتة، ومن تجذر في الوجدان والذوق العام للمغاربة، علاوة على صلتها القوية بأنماط العيش والتقاليد والعادات المتبعة، وتتوزع هذه الفنون بين فنون الرقص الجماعي والغناء والطقوس الاحتفالية التي تمثل نوعا من “المسرح الشعبي”، وكذا النقش والزخرفة في الوشم والزربية والمعمار. وإذا كانت هذه الفنون قد تمكنت من الاستمرار في معظم المناطق بشكل كثيف رغم عراقتها فذلك بسبب استفادتها من العديد من الشروط التي وفرها سياق التحديث سواء في الحواضر أو البوادي، بفضل تشبث الإنسان الأمازيغي بها رغم كثافة الهجرة نحو المدن وتفكك العديد من الروابط التقليدية.

ومثلما هو شأن الأدب الأمازيغي فقد عرفت الفنون الأمازيغية بدورها تحولا نوعيا نحو العصرنة ظهر بوضوح في الأغنية والتشكيل والمسرح والفيلم، والتي ارتبطت كلها بنهضة الأدب الأمازيغي الحديث وتطوره.

النص الأدبي والأغنية الأمازيغية:

عرفت الأغنية الأمازيغية التقليدية انتشارا واسعا منذ عهد الحماية بفضل ظهور الحاكي الفونوغرافي وتوثيق أصوات الرواد الأوائل الذين أخذوا فن الغناء عن سابقيهم من الذين لا نعرف عنهم شيئا، غير أن التسجيلات الأولى التي يعود معظمها إلى العشرينيات من القرن الماضي، وكذا الصور الفوتوغرافية، تبين وجود تطور هام في هذا النمط الفني وفي أسلوب أدائه والآلات المستعملة فيه كـ”الرباب” و”لوطار”. وتتنوع الألحان الموسيقية وطرق الأداء الغنائي من منطقة إلى أخرى، فإذا كانت الأغنية التقليدية بالجنوب المغربي تتميز بخصوصية سلمها الموسيقي الخماسي ذي الجذور الإفريقية و بآلاتها الخاصة، فإن هذه الأغنية في المغرب الأوسط ذات مسحة فنية مميزة رغم حضور المقامات الموسيقية الشرقية فيها، كما أنّ الغناء الأمازيغي في شمال المغرب ذو إيقاعات ممتدّة في تأثيرها وتأثرها بحضارة جنوب المتوسط .

وقد عكست الأغنية الأمازيغية التقليدية خصائص المجتمع المغربي وتطوره عبر عقود القرن العشرين، كما تعرضت للعديد من التحولات التي جعلتها تنفتح بالتدريج على فن الغناء في المحيط المغاربي والدولي.

وكان من نتائج هذه التحولات ظهور الأغنية الأمازيغية العصرية تحت تأثير الظاهرة “الغيوانية” بالمغرب وظاهرة “البيتلز” العالمية التي انخرط فيها شباب أمازيغيون منذ منتصف السبعينيات[10] جمعوا بين الافتتان بالتراث الفني القديم والطموح إلى العالمية والانفتاح على ما هو كوني، وذلك بابتكار أساليب فنية جديدة في العزف والغناء، واستعمال آلات موسيقية عصرية كـ”الكيتار” والكمان و”الأورغ” إلخ.. كما لوحظ وجود تواطؤ فني جميل بين الفنان الأمازيغي العصري والشاعر الأمازيغي المثقف الحداثي، وهو تقارب طبيعي يدلّ على وحدة الرؤية الفنية ووحدة الذوق والقيم.

وإذا كانت الأغنية التقليدية قد أدّت النص الشعري التقليدي وفق الألحان المتوارثة في معظمها واعتمادا على إيقاعية القصيدة التراثية، فإن فناني الأغنية العصرية سيكون عليهم إبداع طرق جديدة في التلحين تستجيب لإيقاعية القصيدة الحديثة وزخمها الفني واللغوي وآفاقها الرؤيوية.

لقد انطلقت تجربة عصرنة الأغنية الأمازيغية في صيغة أغاني المجموعات، لكنها سرعان ما أفرزت تجارب فردية هامة تركت بصمات واضحة في الإبداع الغنائي الأمازيغي في مختلف مناطق المغرب، كما تزامنت مع تحديث القصيدة الأمازيغية التي أصبحت مصدر إلهام لها، ومنها أغاني عموري مبارك التي أدّى فيها قصائد علي صدقي أزايكو ومحمد واكرار، وكذا أغاني الوليد ميمون الذي احتفى بقصائد أحمد الزياني وغيره من شعراء الحداثة بشمال المغرب.

الأدب في السيناريو والفيلم الأمازيغي:

لم يكن ثمة بدّ من أن تقوم السينما المغربية منذ فجر الاستقلال باستثمار المخزون الثقافي الأمازيغي بشتّى الطرق وخاصة على مستوى الفنون الشعبية والمشاهد الطبيعية والمباني المعمارية والحلي واللباس والمصنوعات التقليدية، غير أنّ ذلك الاستعمال لم يكن يتجاوز الاستغلال الفولكلوري السياحي الذي يعكس نظرة الأجنبي إلى ثقافة غرائبية دون النفاذ إلى عمقها الإنساني، كما أنه سار على خطى الفيلم الكولونيالي الذي لم يكن يهمه أكثر من تأثيث الصورة السينمائية بمشاهد مبهرة.

ونظرا لعدم توفر أي إدماج فعلي للأمازيغية في الإعلام السمعي البصري وفي المؤسسات ذات الصلة بالتكوين الفني منذ الاستقلال، فقد ظل الإنتاج الدرامي الأمازيغي غائبا إلى سنة 1993 التي ستشهد ظهور الأفلام الأولى مصورة بتقنية الفيديو، من طرف شركات تعمل في مجال الإنتاج السمعي البصري، لكن في غياب سيناريو محبوك بدقة، وغياب مخرجين ذوي تكوين أكاديمي يجعلهم قادرين على إدارة الممثلين بشكل ناجح. لكن رغم كل النقائص فقد كانت انطلاقة تجربة ستراكم مئات الأفلام، مما خلق جمهورا واسعا للدراما الأمازيغية وسوقا رائجة على هامش المؤسسة الرسمية. و لم يتم إنتاج أول فيلم أمازيغي تلفزيوني إلا سنة 2001، كما لم يتم إخراج أول فيلم سينمائي إلا سنة 2006، وهي نفس السنة التي عرفت فيها الساحة الفنية الأمازيغية حصول أول فيلم أمازيغي على دعم المركز السينمائي المغربي، تلته عدّة أفلام أخرى بعد ذلك.

وكلما تقدمت تجربة الفيلم الأمازيغي إلا وشعر العاملون فيها بضرورة وحيوية وجود كُتاب سيناريو محترفين، ما جعلهم ينعطفون جهة الأدباء وكُتاب النصوص النثرية، فظهرت العناية بالتكوين على كتابة السيناريو سواء لدى المعهد الملكي الذي نظم عدة دورات تكوينية خلال السنوات المنصرمة، أو لدى التنظيمات المدنية المهتمة بالمهرجانات السينمائية. وقد أدّى هذا إلى ظهور جيل جديد من كتاب السيناريو بالأمازيغية سواء انطلاقا من نصوص سردية أدبية أو اعتمادا على موجز قصة يتم تحويلها إلى سيناريو صالح للإخراج السينمائي.

وقد ظهر بالملموس أثر النصّ المكتوب على جودة الأعمال الدرامية، حيث تعتبر الأفلام الأمازيغية الناجحة والتي حصلت على جوائز، أعمالا قائمة على سيناريوهات محبوكة ببناء درامي مصقول، مع وجود مخرجين ذوي تكوين جيد ما ظهر أثره في إدارة الممثلين وجماليات الصورة وحركة الكاميرا. وقد أدى ذلك إلى تراجع العديد من النقائص التي لوحظت في الأفلام الأمازيغية مثل انعدام كتاب السيناريو من ذوي الخبرة، وغياب المخرج وإدارة الممثلين، وضعف الإنارة والصوت، وضعف الحوار ولغة الدراما، وتفكك البناء الدرامي إضافة إلى تمرير العديد من القيم السلبية التي كانت مرتبطة بالمجتمع التقليدي.

تتناول معظم الأفلام الأمازيغية تيمات المرأة والهجرة والأرض والهوية، مما جعل أغلبية الأفلام تدخل في خانة الدراما الاجتماعية، كما ركّز بعضها على استثمار الأدب القديم ممثلا في التراث الحكائي الأمازيغي الشفوي، مثل فيلم Boutfounast وفيلم Tagwmart n ismdal وHemmou Unamir إضافة إلى استلهام التقاليد والعادات الاجتماعية والفنية العريقة، ويعتبر هذا النوع من الأفلام الأكثر رواجا ونجاحا بسبب استقطابه لجمهور مخضرم بين البادية والحياة الحضرية، مما يدلّ على قوة ارتباط العائلات الأمازيغية في المدن بالتقاليد الأمازيغية الأصيلة وبالتراث الأدبي التقليدي.

تقدّم الفيلموغرافيا الأمازيغية تجربة راكمت العديد من الإيجابيات والسلبيات أيضا، حيث بسبب نُدرة التكوين والدعم اللازمين لم يقم المنتج الأمازيغي في معظم ما تمّ إنتاجه بأكثر من نقل الفرجة الشعبية من فضاء “أسايس” و”الحلقة” إلى أمام عدسة الكاميرا، دون إلمام جيد بخصوصيات الدراما السينمائية وتقنياتها، وبسبب ذلك لم يستطع الفيلم الأمازيغي أن يستقطب الفنانين المحترفين إلا نادرا. غير أن هذه العوائق لم تمنع من إنتاج أفلام على قدر كبير من الجودة رغم قلّتها، فاز بعضها بجوائز داخل وخارج المغرب، ويمكن اعتبار أفلام مثل Sat taddangiwin n imuran » « (موجات إموران السبع)، وفيلم « adios Karmen » (وداعا كارمن) للمخرج محمد أمين بداية فعلية رائدة لسينما أمازيغية بمعايير دولية.

خاتمة:

إن مستقبل الأدب الأمازيغي هو مع الكتابة ومن خلالها، كما أن السبيل الوحيد للحفاظ على التراث الأدبي الأمازيغي الشفوي هو تدوينه بطرق علمية ووفق قواعد لغة المدرسة وضوابطها، وذلك لاستحالة الحفاظ على التقاليد الإبداعية التراثية التي ارتبطت ببنيات سوسيوـ ثقافية وبطقوس احتفالية آيلة إلى الزوال. فإذا كان الأدب الأمازيغي الشفوي قد استقطب حتى الآن معظم الجمهور المتلقي، فإن ذلك يعود أساسا إلى تغييب الأمازيغية من المدرسة ووسائل الإعلام والسياسات العمومية لما يقرب من نصف قرن، ولعل مسلسل مأسسة الأمازيغية ونهضتها عبر تفعيل طابعها الرسمي سيُمكن لا شك من تعميم اللغة الأمازيغية في كل مستويات التعليم وجميع التراب الوطني، وكذا من إنشاء شعب اللغة الأمازيغية وآدابها في مختلف الكليات بالمغرب، ما سيؤدي حتما إلى تأطير جيل كامل من المبدعين في مختلف الأجناس الأدبية الأمازيغية، وكذا من النقاد من أهل الاختصاص الذين من شأنهم مواكبة إبداعية الأدب الأمازيغي الحديث ورصد ظواهره وخصائصه وقضاياه.


[1] – من أشهر هؤلاء هنري باسي Henri Basset و ليوبولد جوستينار Justinard Leopold وبوليت كالون Paulette Galon

[2] – تستعمل كلمة “أمارك” Amarg في الجنوب المغربي مثلا للدلالة على الشعر المغنّى المصاحب بالرقص والغناء أو الإنشاد والاحتفال.

[3] – إماريرن جمع أمارير Amarir و معناه المنشد للأشعار أو المغني المطرب، و هو من مصدر ؤرار Urar و فعل أر إتيرير Ar ittirir أي يغني، و يطلق لفظ إماريرن على شعراء أحواش الذين ينشدون أشعارهم ارتجالا في “أسايس” أي حلبة الرقص، كما يسمون أيضا “الروايس”، غير أن هذه الكلمة الأخيرة علاوة على أنها تحمل بعض اللبس الذي قد يؤدّي إلى خلطهم بعينة أخرى من الفنانين، فهي من أصل عربي و تعني القائد أو سائق السفينة أو الفرقة، لتتحول بعد ذلك في الأمازيغية للدلالة على الشعراء المغنين، سواء منهم الذين يقودون فرقا من العازفين على الآلات الوترية و الإيقاعية و يؤدون القصائد الطوال، أو الذين يرتجلون إنشاد الشعر الحواري “أنعيبار” في أحواش أو المقطوعات القصيرة “إسوسّن” Isussn .

[4] – تعني كلمة أحواش مُركبا ضخما من الرقصات المتنوعة والمنتشرة في مناطق سوس والأطلس الصغير والكبير إلى حدود الصحراء، وتتخلل الرقصات الجماعية الرجالية منها والنسائية والمختلطة لحظات مطولة للحوار الشعري المرتجل واللحظي بين الشعراء.

[5] – تعني كلمة “أحيدوس” فنون الرقص الجماعي بالمغرب الأوسط أي الأطلس المتوسط والجنوب الشرقي إلى حدود منطقة ورزازات، وهي رقصات تختلف في شكلها وإيقاعاتها وألحانها وحركاتها وآلاتها عن فنون “أحواش” الجنوبية.

[6] – يعتبر “الفولكلور” بمعناه القدحي تحريفا لأنه ينزع عن فنون الرقص الجماعي الأمازيغي طابعها الأصيل و يحولها إلى مجرد لوحات محنطة ومصنوعة على مقاس نظرة الأجنبي السائح، و لهذا لا تعود للكلمة الشعرية قيمة في “الفلكلور” ، حيث يصبح الأهمّ هو الحركة والمظاهر الاستعراضية التي تبهر العين و تحقق فرجة سطحية . فإذا كانت كلمة “فولكلور” تعني في الأصل دراسة ثقافات الشعوب إلا أنها اكتست في المرحلة الاستعمارية طابعا سلبيا حولها إلى لوحات محنطة لإمتاع الأجانب مما أفرغها من مدلولاتها الأصلية.

[7] ـ حكاية غنية بدلالاتها ورموزها وشخصياتها البشرية والخارقة، انتقلت من الحكي الشفوي بصيغ مختلفة في مناطق “تاشلحيت” إلى التدوين والنشر لأكثر من مرة، كما كانت موضوع دراسات عديدة.

[8] ـ جمعها ودوّنها الأستاذ على إكن في إطار تعاقد مع المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية يتعلق بجمع وتدوين التراث الشفوي. وهي مجموعة حكايات لاقت اهتماما من طرف الباحثين منذ المرحلة الكولونيالية.

[9] ـ تأسست رابطة “تيرا” بمدينة أكادير في 10 يوليوز 2009، بمبادرة من مجموعة من الكُتاب والمبدعين بالأمازيغية، وعلى رأسهم الأستاذ الشاعر والروائي محمد أكوناض، والباحث والمبدع محمد أوسوس، والكاتب لحسن زهور، بهدف تشجيع الكتابة الإبداعية الأمازيغية في مختلف الأجناس الأدبية، وتأطير الشباب وتشجيعهم وتنظيم أوراش كتابة ودورات تكوينية بهذا الصدد، وإصدار منشورات إبداعية ونقدية تسير في هذا المنحى.

[10] ـ كانت البداية مع فرقة “أوسمان” الغنائية التي تأسست سنة 1975 والتي جمع أعضاؤها (عموري مبارك، بلعيد العكاف، سعيد بوتروفين، سعيد بيجعاض، اليزيد قرفي وطارق المعروفي) بين الثقافة الموسيقية الأكاديمية والتشبع بالجذور والطموح إلى العالمية، وقد أطلقت هذه المجموعة التي صادفت نجاحا باهرا مواهب العديد من الأسماء الفنية الكبيرة مثل عموري مبارك وبلعيد العكاف، كما أخرجت الغناء الأمازيغي من بوتقة التقليد المحض إلى فضاء التجديد والعصرنة. عصيد يكتب: الأدب الأمازيغي ورهانات الانتقال من الشفاهة إلى الكتابة


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments