“الربيع الأمازيغي” المغربي


أطلق المغرب، خلال العشرية الأولى من الألفية الجديدة، ورشاً إصلاحية كبرى، نتجت عنها تحوّلات جوهرية مسّت قطاعات مختلفة من تحرير القطاع السمعي البصري، ووضع مدونة للأسرة، إلى الإنصاف والمصالحة لطي صفحة الماضي، وإصلاح الحقل الديني، ومبادرة الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية، وقد صفّق لها الجميع داخل المغرب وخارجه.

استأثرت المسألة الأمازيغية، في سياق هذه التحوّلات، باهتمام كبير، لما عرفته من أسلوب جديد في تعاطي الدولة مع هذا الموضوع الذي تعرّض عبر التاريخ لإنكار ممنهج، وكان يستحيل الحديث عن أيّ انتقال ديمقراطي في غياب معالجة هذه الإشكالية، وهو الأمر الذي اقتنع به صنّاع القرار بعد مرحلة رحيل الملك الحسن الثاني، ولعبت فيه شخصيات وطنية دوراً مؤثراً رغم وجود بنية مغلقة وعقليات داخل الدائرة الحاكمة رافضة آنذاك لكلّ تحوّل في علاقة الدولة بالمسألة الأمازيغية.

دشن خطاب الملك محمد السادس التاريخي بمدينة أكادير سنة 2001 مسلسلاً جديداً، أنهى مرحلة بكاملها وأسّس لعهد جديد أصبحت خلاله المسألة الأمازيغية ضمن محاور المشروع الديمقراطي التنموي، ثم سننتقل إلى مأسسة هذا التحوّل بعد إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية كمؤسسة أكاديمية، سياسية واستشارية، واكبت إدماج الأمازيغية في قطاعات التعليم والإعلام والإدارة وغير ذلك.

ولم يقتصر الأمر على هذا فقط، بل سيتعداه ليشكل مصالحة مع مناطق جغرافية ظلّت بالأمس متأخرة عن ركب التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لأنّ الأمازيغية لا تنحصر في اللغة والثقافة والهوية، بل تشمل كلّ ما يهم التأخر التنموي الاقتصادي والاجتماعي لمناطق معينة.

ولم يقف الأمر عند هذا الجانب، إذ ستنتقل الأمازيغية إلى موقع جديد بوّأها دستور المملكة صفة لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية، وسيتم الإقرار بشرعية التعدّد على مستوى المكوّنات الثقافية للهوية، والتأكيد على الانتماء الثقافي لاتحاد المغرب الكبير. ثم سيعرف هذا المسلسل محطته المتقدمة بعد المصادقة على قانونين تنظيميين يهمان مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية والمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، وصدور مخطط حكومي مندمج لتفعيل مقتضيات القوانين ذات الصلة، وكذا إحداث صندوق لدعم الأمازيغية، وإقرار رأس السنة الأمازيغية عطلة وطنية رسمية مؤدى عنها.

شكّل هذا التحوّل عنواناً لمغرب جديد متعدّد ومتصالح مع ذاته وهويته وحضارته وتاريخه العميق، ودخلت البلاد في مسلسل من الإصلاحات الهادئة من دون توتر أو عنف أو إراقة دماء ضمن ما أسميه بـ”ربيع أمازيغي” مغربي أثار إعجاب قوى كبرى، وأشادت به منظمات حقوقية فاعلة، وثمنته تقارير منظمات دولية معروفة.

إنّ “الربيع الامازيغي” المغربي هو إذن نتاج لتلاقي رؤية للملك محمد السادس ونضالات الحركة الحقوقية والحركة الأمازيغية على وجه التحديد، إضافة إلى وعي قطاع واسع من النخبة اقتنع بضرورة القطع مع نظرة تقليدية سلبية تجاه هذه المسألة، وبأن تحقيق شعار “مغرب ديمقراطي” لا يمكنه أن يستقيم في ظل إنكار لجزء هام من الذات المغربية. هذا فضلاً عن مناخ إيجابي ساهم بدوره في إنضاج ثمار وزهور هذا الربيع.

لقد نجحت الدولة المغربية في وضع مقاربة لمعالجة أحد أهم الملفات الشائكة، التي طرحت عليها بعد رحيل الحسن الثاني، وفق رؤية استراتيجية واضحة ومقاربة مدروسة تنم عن بعد نظر.

تمخض عن “الربيع الأمازيغي” المغربي تجسير الثقة بين الدولة ونخب مناصرة لعدالة وشرعية المطالب الأمازيغية، والإيمان بإمكانية تحقيق التغيير عبر العمل المؤسساتي لإيجاد أجوبة عملية لإشكالية الأمازيغية في بعدها الشمولي.

لقد عشنا في المغرب، خلال العشرية الأولى من الألفية الجديدة، ربيعاً أمازيغياً بما تحمله الكلمة من معنى، تشهد على ذلك قيمة الإصلاحات الكبرى التي مسّت مجالات متعدّدة، ربيعاً أمازيغياً هادئاً من دون عنف أو تدخل أجنبي أميركي أو فرنسي أوروبي، أي ربيعاً أمازيغياً مبكراً عمّا عاشته دول في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، التي اجتاحتها ثورات “الربيع العربي”، قبل أن يتحوّل إلى “شتاء عربي” عصف بمكتسبات سابقة، ولم تزهر ثماره كما كان ينتظر أو يتوقع بعد عسكرة الثورات وصعود التطرف الديني واندلاع حروب ونزاعات، وما شابه ذلك. وهذا “الربيع الأمازيغي” المغربي نجني اليوم بعضاً من قطوفه وثماره بعد أن أصبحت للأمازيغية مكانتها الطبيعية في مؤسسات الدولة والمجتمع.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments