متحف التراث الحضاري الأمازيغي
نسعى من خلال كتابة هذا المقال التحليلي إلى الدعوة لتشييد متحف للتراث الحضاري الأمازيغي بالمغرب، وتثمينه العلمي والفني.
زرت خلال هذا الأسبوع متحف “Lapidaire” المتخصص في تراث وفنون العصور القديمة “L’Antiquité” بمدينة أفينيون الفرنسية، ويعرض تحفا نفيسة من الحضارات المصرية القديمة والرومانية والإغريقية تشمل عناصر المأثر العمرانية والمنحوتات والرسوم وحوامل الكتابات والنقوش والأواني والأدوات القديمة… وأنا أجول بين فضاءات المتحف وأتأمل هذه الحوامل وأشهاد وشواهد الزخم التاريخي وأثره المادي والبصري، والطقس الشعائري الذي يخيم على المكان، انتابني إحساس خاص وتبادرت إلى ذهني أسئلة عدة:
ما هو موقع الحضارة الأمازيغية القديمة وإنتاجاتها العمرانية والفنية من نقوش وكتابات ورسوم وصناعة الأواني والأدوات والنسيج… بين هذه الحضارات والإنتاجات التي عايشتها وتفاعلت وتقاسمت معها أزمنة تاريخية ممتدة منذ حوالي سبعة قرون قبل الميلاد وفضاء جغرافيا واسعا على امتداد جنوب حوض البحر الأبيض المتوسط؟
هل من منطق التاريخ والعمران البشري بمفهوم ابن خلدون أن تتجاور حضارات وأقوام بشرية لقرون طوال ويبدع ويخلد بعضها وجوده الاجتماعي والثقافي والديني وعبقريته الإنسية والحضارية، وتبقى أخرى دون ذلك ودون شواهد كبرى تصل إلى الأزمنة الحديثة؟
ما هي أوجه ومجالات التداخل والتفاعل والتقاطع بين الحضارة الأمازيغية والحضارات المصرية أو الفرعونية والإغريقية والرومانية، وما حدود الفصل بينها؟
خلال الندوة الدولية الأخيرة للجامعة الصيفية بأكادير التي تناولت موضوع “الأمازيغية بشمال إفريقيا، الراهن والمستقبل”، أثارت مداخلة للباحث الفرنسي Emmanuel Plantade، المتخصص في الإنتاج المكتوب في مراحل العصر القديم، التي خصصها لأبوليوس “Apulée” الذي يعتبر أول روائي في تاريخ البشرية، نقاشا هاما، ومما أكده بأدلة بحثية وعلمية أن أبوليوس كان يتحدث ويكتب بثلاث لغات، وأن اللغة الثالثة التي أثارت نقاشا في صفوف المتخصصين هي الأمازيغية. وخلال دردشة جمعتني بالباحث طرحت عليه السؤال: ولماذا لم يعبر أبوليوس بشكل صريح عن انتمائه الأمازيغي وظل هذا الجانب مثار نقاش المتخصصين؟ أجاب بهدوء بأن السبب، حسب بحثه وأدلته، هو أن المثل الثقافي والحضاري في المرحلة كان هو الثقافة اليونانية، وكان يُنظر للأمازيغية بنوع من الدونية! والسؤال الذي يطرحه هذا الاستنتاج هو: هل كانت الأمازيغية وتحققها الحضاري ولا تزال ضحية وضعية الدونية التي فرضت عليها وكرسها الأمازيغ أنفسهم؟
سبق أن تناولت جانبا من هذه الإشكالية الإنسية في كتابي “الأمازيغية والمغرب المهدور”، الصادر سنة 2013، في فصل بعنوان: “الأمازيغ بين التطور والتحول، أو ميتامورفوزات الأمازيغ” (ص.121/130)، وجاء السؤال الإشكالي في مقدمة الفصل كالآتي: عندما يتأمل الباحث في تاريخ الأمازيغ الذي يمتد إلى أكثر من ثلاثة وثلاثين قرنا، يصطدم لا محالة بالتناقض الصارخ القائم بين عظمة الأحداث والإنجازات التي ميزت حقبا مختلفة من حياة المماليك والدول والحضارة والثقافة الأمازيغية، وما بين آثار هذا المجد وعلامات تبلوره في إطار حضاري قائم الذات ومتمكن من الاستمرار والبروز على امتداد الزمن والمكان؟ وخلصت في نهاية الفصل إلى ما يلي: بناة الحضارات هم الشعوب التي تمتلك حسا بانتمائها التاريخي واختلافها الإنسي والثقافي والحضاري، فتبلور ممكنات وجودها وتخلده في مادة العالم!
هل كان السبب الرئيس في عدم وصول إلى الأزمنة الحديثة العديد من إنجازات وتحققات الحضارة الأمازيغية في البنيان والعمارة والفنون والكتابات… هو عامل التخريب الذي عرفته العديد من مراحل وجودهم ومقاومتهم مع الشعوب والحضارات الأخرى، خاصة الوندال والبيزنطيين والرومان… أم يعود إلى عامل الطمس السياسي والإيديولوجي السابق واللاحق؟
ختاما، في إطار مشروع النهوض بالأمازيغية ببلدان شمال إفريقيا وجزر الكناري، وخاصة ببلادنا التي تخطو خطوات مهمة في هذا الاتجاه، خاصة بعد خطاب أجدير سنة 2001 ودستور 2011 والقرار الملكي بترسيم السنة والتقويم الأمازيغي، وإضافة إلى ورش تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية في مختلف مجالات الحياة العامة الراهنة، ينبغي تدارك جانب من هذا الاستيعاب أو النفي الذي تعرضت له شواهد وآثار الوجود الحضاري والثقافي الأمازيغي، وذلك من خلال العمل على الإجابة عن الأسئلة المطروحة أعلاه في إطار عمل علمي وفني كبير يجمع ويتكامل بين عدة تخصصات، وتخصيص موارد بشرية كفؤة ومادية لتثمين التراث المادي والفني والحوامل الكتابية بتفيناغ والنقوش والأدوات والمآثر العمرانية الأمازيغية القديمة وفق المقاربات ومنهجيات العمل المعاصرة في هذا الشأن، وبعيدا عن الاختزال الفلكلوري الضيق، والبداية بتخصيص متحف كبير معزز ببحوث وحوامل علمية وفنية جديدة تصحح العديد من التأويلات النمطية المتراكمة خاصة لدى بعض الأركيولوجيين والكتاب الغربيين، وتثمن وتحافظ على الآثار المتبقية وترمم المخربة منها وتسترجع المخفية أو المتواجدة في ملكيات خاصة، وتعيد للأمازيغية اليوم جانبا هاما من الاعتبار لوجودها واستمرارها التاريخي والحضاري والثقافي المثير للفخر والاعتزاز الوطني.
باحث في الشأن الأمازيغي، رئيس الجامعة الصيفية أكادير