نقد المنطق المُهَلْهَل في “نبش” حميش
يهدف مقالي هذا إلى الرد على مقال السيد بنسالم حميش الذي عنوانه “بنسالم حميش ينبش في “جذور القرابة” بين الأمازيغية والعربية”، والذي نشر يومه 11 يوليوز 2020 في منبر هيسپريس. وخلاصة ردي على ما ورد في هذا المقال أنه انطلق من مسلمة صحيحة (أو لنقل: “من مطلب قويم”) يتفق معه فيها الفقير إلى ربه صاحب هذا المقال، ولكنه برّرها بحجج ضعيفة ينخرها ضعف أكاديمي كبير وعدم تحرّي اللياقة في الحوار يتعجب المرء أن يجدهما عند مثقف سبق له أن اشتغل وزيرا للثقافة.
ملاحظة منهجية
مما يثير الانتباه في مقال حميش قلق بنائه الحجاجي. فتجده تارة يتحدث عن “تيفيناغ” وتارة عن “القرابة التاريخية بين الأمازيغية والعربية”، وتارة عن “جسارة” (أي “ضسارة”) “المتطرفين والغلاة” الذين يفضل تحاشيهم، وتارة عن “أحمد عصيد”، دون أن يمكن القارئ من مفتاح يساعده على ربط عناصر هذا الخُلُط كما يفعل كل كاتب واثق من سلامة حججه ومصداقية معطياته. فالباحث النزيه الذي ينقل العلم لعوام الناس عبر وسائل الاعلام، كالجرائد والمنابر الالكترونية، ينبغي أن يستثمر جهدا خاصا في جعل حججه شفافة بما يمكّن قراءه من تكذيبها إن كانت كاذبة والاطمئنان إلى صدقها إن كانت صادقة. فمَثَلُ السيد حميش في مقاله كمثل إنسان أصابه جُذام خبيث (حفظ الله الأستاذ الكريم من كل داء) يجعله يحك جزءا من بدنه حكا شديدا فلا تهدأ بذلك الحكة، فتشتد به الرغبة لحك جزء آخر من بدنه ينتقل لحكه، فلا تهدأ الحكة في ذلك الجزء من بدنه أيضا، فيستمر في انتقاله من مكان لمكان دون يحصل على ما يسعى إليه من الراحة. فانتقال حميش من موضوع لموضوع يفضح نارا تتلظى في صدره كلما تناول موضوع الأمازيغ والأمازيغية يصرخ من شدة حرها في وجه “تيفيناغ”، فلا يُشفى الالغيظ، ثم يصرخ في وجه “من ينكر العلاقة بين الأمازيغية والعربية”، فلا يشفى الغيظ، ثم يصرخ في وجه “ليركام”، فلا يشفى الغيظ، ثم ينتهي به ألم الحر وعذابه إلى أن يصرخ في وجه “عصيد”. فلا يظهر غيظ السيد حميش وانفعاله بشكل واضح جلي سوى في آخر فقرة من فقرات مقاله، هي نحو ثلث مقاله رغم أنه اعتبرها “حاشية”، حيث أباح لنفسه أن يصدر كلاما في حق المفكر المغربي أحمد عصيد هو أقرب للفُحش من القول منه إلى المناظرة الفكرية الهادفة. فوصفه ب”الهرطيق” و”البلطجى” و”الكفتحي”، ووصف كلامه ب”التخلف”، واعتبر ڤيديوهاته “مزبلة”، وغير ذلك من الألفاظ غير اللائقة مما لا نقبله من عوام الناس فكم بالأحرى نقبله من “مثقف” و”وزير سابق”.
لهذا، فإن منهجنا في مناقشة ما ورد في مقال حميش هو أن نعيد بناء حجته بشكل يحررها من هَلْهَلَتِها الحجاجية وينقيها مما تخللها من فاحش القول، فنرتفع بها أولا إلى مستوى ما يمكن أن نناقشه من الحديث، ثم نناقشها بعد ذلك بصحيح العلم.
لذلك، فستنفترض أن حميش يدافع عن “أطروحة” مكونة من جزأين، أولهما “مسلمة” أو “مطلب ديونتولوجي” (ديونتولوجي = قيمي)، وثانيهما “منهج” يرى حميش أنه أهدى إلى تحقيق المطلب الديونتولوجي الذي اقترحه ودعا إليه. سأحاول أن أصوغ “مطلب” حميش و”منهجه” بما أستطيع من التدقيق والقرب من عباراته وإشاراته، لأنتقد بعد ذلك دعاويه ودعوته كاشفا عن أوجه الكذب والتدليس فيهما.
أولاــ مسلمة صحيحة (أو “مطلب قويم”)
ينطلق حميش من مسلمة مفادها أن “المغرب إنما قامت قائمته في العمق على سريان قواعد وقيم مشتركة لاحمة، هو مدين لها في ديمومته وتماسكه، وفي اكتسابه لقدرة معتبرة متجددة على مقاومة أخطار وهزات تاريخية قوية متنوعة، منها الغزو الأيبيري لساحليه الأطلسي والمتوسطي طوال القرنين 15 و16 م، ومنها التهديد العثماني على حدوده الشرقية، هذا فضلا عن حلقات صدمة الحماية والاستعمار الفرنسيين.”
فكأنما لسان حال حميش يقول: ” إن قدرة المغرب على مقاومة الأخطار والهزات والغزو الأجنبي هي مكاسب ينبغي أن نحافظ عليها وأن نسعى إلى تنميتها”، لذلك فرغم أن هذه المسلمة تتخذ شكل “جملة مثبتة”، فهي في جوهرها مصادرة ديونتولوجية تصف ما يريده حميش لبلده من “وحدة” و”استقرار” و”مناعة” نحن نوافقه في تطلعه إليها وسعيه إلى تحقيقها، بل ونتجاوز جدلا عن أي تدقيق في المحتوى الامبريقي التاريخي لمثل هذه الدعاوي الساذجة التي تُغفل كل أشكال الصراع الداخلي على السلطة في تاريخ المغرب. ف”حْنا وْلاد اليوم”، كما يقال، وعلينا أن نسعى جميعا للحفاظ على وحدة بلدنا واستقراره، لا خلاف في ذلك. … لكن كيف؟
ثانياــ منهج خاطئ
منهج حميش في تحقيق “الوحدة” و”المناعة” للمغرب هي أن نعمل “معا” على “تشكيل تكتل حضاري، على غرار التكتلات في بلدان العالم المتقدم، تكتل يسير بمقتضى مبادئ دستورية مؤسسة”. هذا كلام محمود من جهتين: من جهة دعوته إلى “تكتل حضاري” (فهذه غاية تُطلب)، ومن جهة إقراره بضرورة انخراطنا “معا” (استخدم حميش هذا اللفظ في قوله: “لرغبة في الحياة معا”) في تحقيق هذا “التكتل” (فهذا مسعىً دامج يرفض الاقصاء). وبذلك تجتمع في “الغاية الديونتولوجية” لحميش “فضيلتان عظيمتان”: فضيلة “الوحدة” وفضيلة “الاشتراك في بناء هذه الوحدة” بشكل لا إقصاء فيه.
لكن، كما يقول الأنڭلوساكسونيون، “الشيطان يختبئ في التفاصيل”. فبمجرد أن يبدأ حميش في تفصيل ما يرى فيه مدخلا لما يدعو إليه من “التكتل الحضاري”، تظهر لعبته غير النظيفة وتستمر في الكشف عن سَوءتها، كما تفعل كل عارضة ستريپينك غير “محترفة، إلى أن يكمل تعَرّيه بشكل فاضح باستعمال لغة غير لائقة في حق الأستاذ أحمد عصيد.
فما هي مقومات “التكتل الحضاري” الذي يدعو إليه حميش؟ يقترح الأستاذ حميش للنهوض بمطلبي “التكتل الحضاري” و”التعاون معا على تحقيق ذلك” ترسيخ مُقومين اثنين أستجمعهما من من شتات كلامه وأرتبهما على النحو التالي:
(أ) المقوم الأول ل”التكتل الحضاري” المنشود بالنسبة لحميش يكون بتعويض حروف تيفيناغ التي “لا تراث لها” بغيرها. فهو على الأرجح يقصد تعويض تيفيناغ بالحروف العربية، قرينة فهمنا لذلك أنه يذكرنا في نفس سياق دعوته للتعويض بوجود الأمازيغية “داخل وسط تبنّى الأمازيغ فيه الإسلام والعربية منذ أكثر من أربعة عشر قرناً”. فيكون جوهر دعوى حميش أن استعمالنا لنفس الخط سيساهم في تحقيق “التكتل الحضاري” المنشود، واستعمالنا لخطين مختلفين (الخط العربي لكتابة العربية وتيفيناغ لكتابة الأمازيغية) سيؤدي بنا إلى “البعثرة والتفكيك”.
دعوة حميش إلى “توحيد” الخط بإقصاء تيفيناغ لصالح الخط العربي ظالمة من وجه وخاطئة من وجهين. فهي ظالمة من حيث دعوتها لإقصاء أحد الخطين، هو تيفيناغ، لصالح الآخر، وهو الخط العربي. فإذا كان تبرير حميش لهذا الاختيار هو اعتقاده بأن الخط العربي أكمل وأصلح لكتابة كلا اللغتين فسيكون ذلك وجها ثالثا لكذب دعواه سيتضح له وللقارئ الكريم إذا ما هو قرأ مقالنا الذي نشرناه في منبر هيسپريس بتاريخ 11 يوليوز 2020 (والذي عنوانه: “تيفيناغ أكثر تطورا من الحرف اللاتيني“) حيث برهنا بشيء من التفصيل على “الأمثلية الوظيفية” functional optimality لخط تيفيناغ التي تجعله قابلا للاستعمال لا لكتابة الأمازيغية فقط بل لكتابة العربية واللاتينية كليهما.
ذاك وجه “الظلم” في دعوة حميش، فماذا عن أوجه الكذب فيه؟ الوجه الأول لكذب دعوى حميش أن هناك من البلدان من يستعمل أكثر من لغة واحدة وأكثر من خط واحد، ولكنها تبقى بلدانا آمنة موحدة. من هاته البلدان الهند حيث يُعترف ب 22 لغة رسمية تكتب ب 13 نظاما خطيا. وهناك شعوب تتحدث لغة واحدة ولكنها تستعمل أنظمة كتابية مختلفة كپولاندا حيث يستعمل التتر الحروف العربية لكتابة لغتهم بينما يستعمل غيرهم اللاتينية لكتابة نفس اللغة، فلم يؤد ذلك إلى تشتت أو تفكك. وهناك شعوب أخرى يختار أفرادها بين خطين مختلفين، كالصرب الذين يكتبون لغتهم إما باللاتينية أو بالسيريلية. دون أن يؤدي ذلك إلى نزاع أو تنافس بين النظامين. الوجه الثاني لكذب دعوى حميش أن هناك بلدانا تستعمل نفس اللغة ونفس الخط ولكنها دخلت في حروب مدمرة في ما بينها، منها مثلا الكويت والعراق اللذين توحد بينهما اللغة والخط ومقومات حضارية أخرى ولكنهما، دخلا في مواجهات وحروب بينهما دامت زمانا طويلا. وهذا عين ما بينه ريتشاردسون بشكل نسقي في كتابه الموسوم Statistics of Deadly Quarrels (1960) الذي بين من خلال دراسته ل 300 حالة حرب بين 1820 و1929 أن استعمال بلدين لنفس اللغة لا يتناسب اطرادا مع دخولهما في الحرب ضد بعضهما البعض أو عدم دخولهما.
لذلك فاستعمال خطين مختلفين للغتين الرسميتين في بلدنا لن يؤدي إلى “التفكك” و”التشتت” خصوصا إذا صدقت الدولة وعدها بإنزال الطابع الرسمي للغة الأمازيغية إنزالا كاملا غير منقوص فصارت اللغتان الأمازيغية والعربية لغتين لجميع “المغاربة بدون استثناء”. فما يوحد الأمم ويحميها من التفكك ليس هو استعمال نفس الخط، ونفس اللغة، وارتداء نفس الملابس، وتناول نفس الطعام … بل أن يخضع الجميع لدستور دامج يعترف اعترافا مؤسساتيا بتعدد المجتمع وتنوع ثقافاته ولغاته، وأن يترجم هذا الدستور إلى قانون يطبق على أرض الواقع تطبيقا محميا بسلطة الدولة ومراقبة المجتمعين المدني والسياسي.
(ب) المقوم الثاني ل”التكتل الحضاري” المنشود، في منظور حميش، يكون بإدراك حقيقة تنبه لها “علماء مسلمين وحتى أجانب” مقتضاها أن “اللهجات البربرية” تصنف في إطار اللغات “الحامية السامية”. وهي الأطروحة التي ثبتت عند العلماء ولم ينكرها محمد شفيق الذي أكد أنه “لم يطعن فيها أحد بعد”.
فلسان حال حميش أن انتماء الأمازيغية إلى نفس المجموعة اللغوية التي تنتمي إليها العربية هي ملمح من ملامح التقارب التاريخي الذي يوجد أصلا بين الأمازيغية والعربية والتي ينبغي أن نؤكد عليها لترسيخ “التكتل الحضاري” الذي يدعو له.
لي على كلام حميش حول تصنيف الأمازيغية في إطار العائلة السامية ــ الحامية (أو “الأسياوية الافريقية” كما تسمى اليوم) أربع ملاحظات ألخصها في ما يلي:
أولاــ أنه كلما تكلم حميش في أمور تتعلق باللغات، كلما أبدى جهلا غريبا بالمعطيات البسيطة التي عادة ما لا نتسامح معها في دروس اللسانيات التاريخية مع طلبتنا وميلا إلى نقص الدقة في ضبط المعلومة هما أمارتان من أمارات تطفله على علوم ليس مُكَوّناً فيها وليس على علم جيد بأدبياتها. من ذلك مثلا أنه نسب “أطروحة” التصنيف اللغوي التاريخي (“اللغات الحامية السامية”) لكوهن مارسيل (1924)، وهذا غير صحيح لأن اللساني والاثنولوجي النمساوي Friedrich Müller هو أول من أشار إلى وجود عائلة لغوية حامية ـ سامية في كتاب له نشر سنة سنة 1876 عنوانه Grundriss der Sprachwissenschaft، ليأتي بعده الاثنوغرافي الفرنسي Maurice Delafosse فيستبدل مصطلح “سامي ــ حامي” بمصطلح “أفريقي أسياوي” ((سنة 1912)). وكلامه غير صحيح أيضا لأن الكتاب الذي ألفه كوهن سنة 1924 بنفسه هو “Le system verbal sémitique et l’expression du temps ” موضوعه هو النظام الفعلي في اللغات السامية، أما الكتاب الذي يصف اللغات السامية الحامية ضمن عائلات لغوية أخرى (عنوانه Les langues du monde) والذي يشير إليه حميش فلم يؤلفه كوهن بل هو من تأليف مجموعة من اللسانيين أشرف على أعمالهم كوهن و Antoine Meillet
من مظاهر التدليس في كلام حميش، وهو يذكر بالانتماء السامي الحامي للأمازيغية، أنه أومأ إلى أن هؤلاء اللسانيين الذين صنفوا الأمازيغية ضمن المجموعة السامية الحامية اعتبروها “لهجات بربرية” (تأمل قوله: ” ذهبوا إلى تصنيف اللهجات “البربرية”) ـــ أومأ بذلك دون تصريح يتحمل فيه المسؤولية الأكاديمية. لكننا عندما نعود إلى المؤلف الذي أشار إليه والذي أشرف عليه كوهن وميي سنجد أن الباحثين الذين ألفوا الكتاب يؤكدون بأن اللهجات الأمازيغية هي تعبيرات مختلفة عن لغة واحدة هي اللغة الأمازيغية، هذا صريح النص الذي يعبرون فيه عن هذه الحقيقة:
“On ne peut pas parler que d’une seule langue berbère, divisée en dialectes. Entre ces dialectes, les différences grammaticales sont faibles. Le vocabulaire est très cohérent dans son fond berbère.” (p. 137)
إلا أن من أسوء مظاهر عدم الاطلاع على الأدبيات المنشورة التي يبديها حميش في معرض حديثه عن التصنيف السامي الحامي للأمازيغية فهو ايحاؤه (والايماء والايحاء هما أسلوباه المفضلان في عرض ما يريد أن يقنع به القارئ دون أن يتحمل أي مسؤولية أكاديمية) بأن لا أحد من الباحثين ساءل هذا الطرح. هذا أيضا غير صحيح، رغم أن محمد شفيق أكد أطروحة التصنيف الحامي السامي للأمازيغي (ورغم أن صاحب هذا المقال نفسه يتبنى هذه الأطروحة بشكل نقدي). وهذا بيان عدم صحة ما يوحي به بنحميش:
من الأبحاث الرصينة التي حاولت تصنيف اللغة الأمازيغية البحث الذي نشره مؤرخ اللغات الأمريكي كريستوفر إهيرت، أستاذ التاريخ الافريقي واللسانيات التاريخية الافريقية (والذي عرف بجمعه بين التحليلين اللساني والأركيولوجي)، في كتاب عنوانه “Reconstructing Proto-Afroasiatic (Proto-Afrasian): Vowels, Tone, Consonants, and Vocabulary”. والصورة العامة لتاريخ اللغات الإفريقية الأسياوية التي خرج بها هذا الكتاب هي كما يلي: كان يسكن في منطقة إثيوپيا ــ إيريتيريا حوالي 13000 ق.م شعبان كان يتكلم أحدهما باللغة الأموتية والآخر باللغة الإريتيرية الأصلية. بعد ذلك انقسم المتحدثون باللغة الإيريتيرية إلى مجموعتين، اتجهت إحداهما بين 13000 و11000 ق.م جنوبا، وهذه هي التي تغيرت لغتها إلى الكوشية، واتجهت الثانية شمالا وتفرع عنها سنة 8000 ق.م ثلاث شعوب يتحدث أحدهما بالسامية القديمة، والثاني بالمصرية القديمة، والثالث بالأمازيغية القديمة.
ورغم الدقة المنهجية التي اعتمدها إيهيرت في بحثه اللساني التاريخي (فقد اعتمد على تحليل مفصل للغات الكوشية والسامية)، فهو يعترف بأمر يتعلق باللغة الأمازيغية يجعلنا في شك كبير من تصنيفه لهذه اللغة ضمن المجموعة الأفرو أسياوية. ففي صفحة 12 من كتابه يعترف هذا الباحث أن اللغة الأمازيغية لا تستعمل نفس التمايزات الصوتية (الفونيمية) التي تقوم عليها الأنظمة الصوتية للغات الأفرو أسياوية الافريقية الآسياوية (السامية الحامية)، معللا ذلك بدمج الأمازيغية لأصواتها في بعضها البعض بشكل جعلها تفقد تمايزاتها الأصلية.
إلا أن إيهيرت لا يقدم أي دليل على أن تميز الأمازيغية بدمج أصواتها بما نتج عن هذا الدمج من فقدان للأصوات الأفرو أسياوية الأصلية، بل إنه يعترف بأن لا سبيل لوضع جداول علمية نقارن بواسطتها الأمازيغية مع غيرها من اللغات الأفرو أسياوية، خصوصا أن البحث الإيتيمولوجي في الأمازيغية لم يحقق بعد تراكما يمكن أن ننطلق منه في البحث لمقارن الرصين.
يستنتج من كل هذا أن تصنيف الأمازيغية بصفتها لغة سامية حامية ليس قائما على أساس علمي قوي كما يُعتقد.
ونفس النتيجة يؤكدها لسانيان آخران من جامعة ليون وهما هومبير و فيليپسون في مقال علمي لهما عنوانه “الأهمية اللسانية للغات المعزولة”. فرغم أنهما يتبنيان تصنيف إيهيرت فإنهما يذكران بأن المعجم المشترك بين الأمازيغية واللغات الأفرو أسياوية الشمالية هو “صغير بشكل مثير “Amazingly small” إلا أن من أسوء التدليس الذي يظهر في ما جاء به حميش في مقاله أن خلط خلطا غريبا لا يستقيم بين أطروحة التصنيف الحامي السامي للأمازيغية، وهي أطروحة محترمة قد نقبلها بتحفظ أكاديمي (قد نفصل في أسبابه وحيثياته في مقال آخر)، وأيديولوجيا “عروبة الأمازيغية”، والتي روج لها الموظفون الأيديولوجيون لأحزاب البعث ونظام القذافي البائد ممن لا يُستشهد ب”أعمالهم” في الأبحاث الأكاديمية المحترمة، كفهمي خشيم الذي سنخصص مقالا قادما لنقد المصادرات الأيديولوجية الكثيرة في “إنتاجاته”.
ولمساعدة القارئ الكريم على اكتساب وعي أولي بالمحاولات الفولكلورية المثيرة للضحك ل”إرجاع” ألفاظ أمازيغية إلى “جذور”عربية، سأبين بعض أوجه العبث في الأمثلة التي استعملها حميش لتوضيح كيف ترتبط بعض الكلمات الأمازيغية بألفاظ ومعان “أصلها” في العربية:
ــ لفظة “ثامطّوث” التي تعني “امرأة: ر بطها حميش ب”الطامث أي الحائض”. فلست أدري كيف يوحي الخيال الپاتولوجي لإنسان لباحث أن يتصور بأن الانسان الأمازىغي لم ير في المرأة سوى أنها “حائض” رغم أنه سماها أيضا ب”تامغارت” معناها “القائدة”، ولماذا لم يربط “تامطوث”، وهي صيغة مؤنثة، بصيغتها المذكرة التي هي “أمطّو” (تعني “الدمع” وتنطق أيضا “أمطّاو”)، فيفسر تسميتها بكون “المرأة كثيرة البكاء”؟ فكيف تشتق لفظة بلاحقتها المؤنثة بكلمة من كلمة في لغة أخرى يكون لفظ اللاحقة الأمازيغية فيها جزءا من الجذر؟ هذا عبث أشبه بأن تقول بأن كلمة “ساروت” التي تعني المفتاح مشتقة من عبارة sa route بالفرنسية تعني “طريقه”، سميت كذلك لأن المفتاح “يأخذ طريقة بشكل مستقيم داخل القفل”. فهذا عبث لا فائدة منه سوى أن يُستخدَم مثالا على ما هو أعبث منه.
ــ لفظة “أدرار”: اعتبر حميش أنها مشتقة من “ذروة الشيء”. العبث في الكلام أن الأمر يتعلق بجذرين مختلفين. فالاسم الأمازيغي يتكون من ثلاثة أصوات هي “درر”، راؤها الثانية أصلية، بينما جذر لفظة “ذروة” في العربية يتكون من الأصوات “ذرو” أو “ذري”، من ذاك قولنا “”ذَرَت الريح الترابَ وغيرَه تَذْرُوه وتَذْريه ذَرْواً وذَرْياً وأَذْرَتْهُ وذَرَّتْه: أَطارَتْه وسفَتْه وأَذْهَبَتْه”، فالأصل في “الذروة” “جعل الشيء يطير”، مما يعني أن معنى “العلو” اشتقاق دلالي في العربية وليس أصليا. أما الجذر “درر” في أصله الأمازيغي، فلا يرتبط بمعنى “العلو” أصلا بل بمعنى “الحجر” أو “الصخر” لا يزال يستعمل بهذا المعنى في الأمازيغية الصنهاجية. فواضح إذن أن الأمر يتعلق بلفظتين مختلفتين، “درر” و”ذرو/ي”، وبمعنيين مختلفين: معنى “تطيير الشيء عاليا” ومعنى “الحجر أو الصخر”. وتقريب صورة عبثيته أن يُقال بأن لفظة “باڭار” بالدارجة المغربية (تعني “البقر” تستعمل لوصف من نستهجن تصرفه) أصلها bagarre بالفرنسية معناها “العراك”، فنبرر الربط التعسفي بقولنا:”إن الباڭار سمي كذلك لأن الأبقار تتزاحم حول موارد الماء وتتعارك عليه أو نحو ذلك”. فتأمل كيف أن لا حد للعبث في التمحُّل والتماس الحيل التافهة لربط كلمات من لغة بكلمات من لغة أخرى.
ــ لفظة “أمازيغ” اعتبر حميش أنها في الأصل كلمة عربية وهي “أمازر” تعني “الأقوياء أشداد القلوب”. أوجه العبث الفولكلوري في هذا الربط كثيرة يتعجب المرء كيف تصدر عن “مثقف”. أولها أن صيغة “أمازيغ” في الأمازيغية مفردة معرفة، أما “أمازر” فهي جمع نكرة، ولا نعرف لمثل هذا الترابط الجيني مثيلا في كل ما درسه اللسانيون المحترفون في القرنين التاسع عشر والعشرين. وثانيهما أنه لا توجد قاعدة في التحول الصوتي تبرر التحول من الراء إلى الغين، فالتحولات الصوتية لا تتم بشكل اعتباطي، بل عادة ما تكون منضبطة لعمليات صوتية مبررة فونيتيكيا كال palatalization و devoicing و ال lenition. و epenthesis والحذف بسبب النبر الخفيف والmetathesis وغير ذلك من العمليات المعروفة عند ممارسي اللسانيات. اللهم إذا كان حميش يعتقد بسذاجة أن الأمازيغ يحولون الراء غينا كما يفعل الفرنسيون (وهذا غير صحيح). ولك أن تتخيل أن يأتي عندك قليل علم فيقول لك إن أصل كلمة “الازار” في العربية هي lézard الفرنسية وذلك لأن السحلية تغير لونها وكأنها تستر حقيقتها ب”إزار”، وأن أصل “البِزار” في العربية هي bizarre لأن “البزار” أعجب ما في الأرض، وأن أصل “البُراز” في العربية هو الاسم العائلي الفرنسي Bozar لأن عائلة Bozar كانت معروفة بكثرة “تغوّطها” فأخذ اسم “الغائط” من اسمهم !
ثانياـ لنعطي للسيد حميش والقارئ الكريم فكرة عن المنهج العلمي الذي يُتّبع في إنجاز تحليل التحليل الايتيمولوجي، ليسمح لي أن أصف له كيف ندرب طلبة سلك الماستر على إنجاز ّتحليل ايتيمولوجي لمفردة من المفردات، فحميش يحتاج لمثل هذا التدريب قبل أن يتجرأ على اقتراح تأصيلات إتيمولوجية.
فتحليل مفردة واحدة من مفردات لغة من اللغات يحتاج لما يقل عن أسبوع واحد من البحث، يتبع فيه الباحث المتدرب أربع مراحل وهي:
1ــ مرحلة تحليل المفردة صوتا ومقولة ومعنى واشتقاقا داخل اللغة المعنية نفسها باستعمال نوع مخصوص من المعاجم، فيطلب من المتدرب بعد الانتهاء من هذه المرحلة أن يكتب تقريرا يلخص فيه نتائج بحثه.
2ــ مرحلة ربط المفردة المدروسة بمتقاربات لفظية cognates داخل اللغة المعنية باستعمال الملحق الايتيمولوجي الذي لا يوجد إلا في معاجم خاصة. يمكن البحث الباحث في هذه المرحلة من أن يربط المفردة بمقارباتها في اللغات التي تنتمي إلى المجموعة الفرعية الأقرب (كالأموتية والتشادية بالنسبة للأمازيغية، وكاللغات الجرمانية الغربية بالنسبة للانجليزية). ينهي الطالب بحثه في هذا المرحلة بصياغة ما نسميه ب”التقرير الثاني”.
3ــ مرحلة ربط المفردة بمقارباتها في المجموعة اللغوية التي تنتمي إليها المفردة موضوع الدرس (كالسامية الحامية، بالنسبة للأمازيغية، والهندو أوروپية بالنسبة للانجليزية). تدرج نتائج البحث في هذا المرحلة في “التقرير الثالث”.
4ـ مرحلة ربط المفردة بمقارباتها في لغات خارج العائلة اللغوية للغة المعنية من أجل إعادة بناء الأصل “النوستراتي”، أي أصل العائلات اللغوية الهندو أروپية والحامية والسامية والألتية والدراڤيدية، ليصوغ الطالب المتدرب بعد ذلك تقريره الرابع والأخير.
لكن الطالب لا ينجز هذا النوع من البحث إلا بعد أن نعرفه بشكل قريب بمختلف أنواع المعاجم الايتيمولوجية وغيرها، وبعد أن ندربه على طرق التأكد من المتقاربات cognates، وبعد أن ننبهه لما ينبغي أن يتجنبه من استعمال الايتيمولوجيا الفولكلورية التي يعج بها الانترنيت وكتب المتطفلين والهواة والموظفين الأيديولوجيين.
فبعد أن يقضي الباحث وقتا غير قليل في جمع المتقاربات اللفظية في ما لا يقل عن أربعين لغة، ويقارنها باستعمال منهج خاص في المقارنة والتحقيق، وباستعمال معاجم ايتيمولوجية معتبرة عند أهل الاختصاص يخرج بنتائج متواضعة يعرضها على الأنداد الأكاديميين لنقدها وإبداء رأيهم العلمي فيها، دون أن يتجرأ على جعل لغة من اللغات داخل العائلة اللغوية “أصلا” منه تتفرع كل اللغات رغم أنها تشترك بسبب أصلها التاريخي المشترك غير المعروف في جزء كبير من المعجم والخصائص النحوية والمورفولوجية والصوتية. بهذا نجمع قواميس الجذور المشتركة بين لغات العائلة اللغوية الواحدة.
فلك أن تتفكر في عظم الفرق بين المنهج العلمي في التأصيل الايتيمولوجي وما أتى به حميش من عبث.
خلاصة
خلاصة الكلام، إذن، أن حميش لا يدعو إلى “تكتل تاريخي” ووحدة بين مكوناته، بل يدعو إلى هيمنة الثقافة العربية على الثقافة الأمازيغية، بإقصاء حرف تيفيناغ، وبترسيخ الأديولوجية البعثية التي التي أسس لها طغاة الشرق في العراق وسوريا وليبيا، والتي تجعل من كل مظهر من مظاهر حضارتنا مجرد رافد من روافد “نهر العروبة” الذي لا وجود له سوى في الخيال المرضي للموظفين الأيديولوجيين الذين كانوا يعتاشون من إكراميات قواد الأحزاب البعثية.
لقد تحدى حميش السيد عصيد أن يكتب مقالاته وتآليفه بالأمازيغية بدل أن يستغل القدرات التعبيرية للغة العربية، فهذا نوع من “أكل الغلة وسب الملة”. ورغم أني أعلم علم اليقين أن عصيد متمكن من الأمازيغية المعيارية تمكنا يؤهله إلى التعبير بها عن أعقد الأفكار وأجلها (وهو أمر أغبطه عليه شخصيا)، وأنه إنما يتحدث بالعربية وأحيانا بالفرنسية للتواصل مع قوم لا يعرفون غير هاتين اللغتين، فأنا أعلم أيضا أن حميش لن يسعده أن يسمع عصيد أو أي إنسان أمازيغي آخر يتحدث بالأمازيغية، بل لن يسعده أيضا أن يرى هذا اللسان العظيم وهو يتمدد في شوارع مدننا ومدارسنا، ولن يسعده أن يرى الوعي الهوياتي الأمازيغي وهو يسيطر على الجامعات ويطرد الأوهام القومية المتياسرة منها إلى مزبلة التاريخ الذي لا يعيد نفسه. فهو لا يدعونا للكتابة بالأمازيغية لأنه يحب قراءتها وسماعها، بل لأنها نار تتلظى في أحشائه لن يطفأها سوى أن تنطفئ هي.
فاعل أمازيغي ورئيس شعبة الدراسات الإنجليزية بجامعة القاضي عياض ودكتور في اللسانيات