حل “شفرة” منقوش “عزيب ن إيكّيس”


كلما درست المنحوتات الصخرية العتيقة التي تحتوي على نصوص مكتوبة بحرف تيفيناغ، كلما تأكدت من أمرين:

أولهما — أن الراغبين في فهم اللحظات الأقدم للثقافة الأمازيغية قد خسروا أكثر من ثلاثة عقود من الزمان أو أكثر كان يمكن أن يفهموا فيها الكثير الكثير عن هذه الثقافة.

وثانيهما — أن سبب هذا التأخر في الفهم هو الإنفصال الذي حدث بين الأنتروپولوجيين والأركيولوجيين من جهة واللسانيين من جهة أخرى.

الأنتروپولوجي والأكريولوجي (والإپيڭرافي على وجه الخصوص) يكتفي باكتشاف الوثائق، وأرشفتها، ووصفها بعناية. واللساني (خصوصا اللسانيون المتأثرون بآللسانيات البنيوية والتوليدية) يكتفون بدراسة اللغات كما هي في واقعها الراهن.

لذلك سنقترح على القارئ الكريم سلسلة من المقالات سنحاول في كل منها أن نحل “شفرة” نص من النصوص القصيرة التي نجدها منقوشة على إحدى المنحوتات التي اكتشفها العلماء في أماكن مختلفة من أرض تامازغا الكبرى. والمأمول أن يمكننا حل “شفرة” هذه النصوص أن نقترب أكثر إلى فهم الثقافة الأمازيغية الأولى حتى نعيد اكتشاف من نكون فيها ومن خلالها.

النص الذي سأحاول حل “شفرته” في مقال اليوم هو المنقوش الموجود على منحوت “عزيب ن إيكّيس” ..

التعريف بالمنحوت

”عزيب ن إكّيس“ منحوت صخري اكتشفه J. Malhomme في جبل ياڭر بالأطلس الكبير الموجود بإقليم أزاغار (المعروف ب”الحوز”) في نهاية الخمسينيات، ووثق له في الجزء الأول من متن النقوش الحجرية للأطلس الكبير الذي نشره سنة 1960.

يعود زمن هذا المنقوش حسب تقدير العلماء لحوالي 1500 إلى 1000 سنة قبل الميلاد ويحتوي على صورة (ما يبدو على أنه) إنسان (شبه) مجنّح بوجه، وجسد، ويد، وقد قُسم جسده إلى ثلاثة أجزاء عمودية لأسباب غير مفهومة.

محتويات المنحوت وزمنه

يحتوي منحوت عزيب ن إيكّيس على نص يخترق جسد الإنسان المصوَّر من جانبه الأيسر. ومن المثير أن عبد العزيز الخياري (وهو عضو في المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث) برهن بما لا يدع مجالا للشك (الخيري عبدالعزيز 2009) أن هناك مسافة زمنية بين زمن إنشاء صورة الإنسان وزمن كتابة النص. فرغم أن النص قديم جدا (إذ ينتمي إلى المرحلة الموريطانية)، فإن بعض حيثيات المنحوت تبين أنه أحدث من الصورة نفسها. من الأدلة على ذلك أن أسلوب نحت الصورة يبدو أكثر نعومة من أسلوب نحت النص المكتوب. ومنها أيضا أنه قد أصاب منحوت عزيب ن إيكيس تصدع جعل كاتب النص يتجنب موضع التصدع في كتابته لهذا النص فمال به يمينا إلى حيث لا تصدع.

النص المنقوش في المنحوت

يتفق Galand L. وعبدالعزيز الخيري في تأويلهم الڭرافي لنص عزيب ن إيكيس على وجه العموم ولكنهما يختلفان في خمسة أمور نلخصها كما يلي (قارن بين التمثيلين في الصورة الموجودة في آخر المقال):

1ـ يرى ڭالاند أن النص يتكون من 17 ڭرافيما، بينما يرى الخيري أنه لا يحتوي سوى على 13 ڭرافيما. ومرد الوهم الذي سقط فيه ڭالاند أنه اعتبر النقط الموجودة في النص علامات فصل بين الكلمات كما كانت هي العادة في مراحل أقدم من كتابة تيفيناغ. إلا أن الخيري بين بأن تلك النقط هي امتداد للصورة وليست جزءا من النص.

2ـ أن ڭالاند اعتبر الحرف الأخير (الأعلى) في النص هو الڭرافيم المكون من ثلاثة خطوط متوازية عموديا (وهو الڭرافيم الدال على الصوت /h/ على الأرجح)، ولكن توفر الخيري على صور أوضح للنص جعلته يرى أن الحرف الأخير هو الڭرافيم المكون من أربعة خطوط متوازية عموديا (وهو الڭرافيم الدال على الصوت /ɣ/ أو /q/، أي الغين أو القاف، على الأرجح).

3ـ أن ڭالاند اعتبر الحرف السابع في النص دائرة بينما يراه الخيري مربعا. وهذا الفرق ليس مهما لأن الڭرافيم لا يمكن أن يدل سوى على الصوت /r/ في كلا الحالتين.

4ـ أن ڭالاند يعتبر الحرف الخامس في النص خطا أفقيا، وهو الڭرافيم الدال على الصوت /n/، بينما يرى الخيري أنه مجرد نقطتين متتاليتين قد تكونان امتدادا للصورة وليستا ڭرافيما من ڭرافيمات النص. سأبين بأن الإنسجام الدلالي للنص يرجح قراءة ڭالاند.

5ـ أن ڭالاند لم يتبيّن من وجود حرف ياڭ (/g/) فوق الڭرافيم الخامس عشر نحو الأعلى، فصحح الخيري هذا الخطأ بإدراج الڭرافيم في تمثيله للنص المنقوش.

كيف ننطق نص منحوت عزيب نيكيس؟

أوّلت قاعدة معطيات المنقوشات الليبية الأمازيغية التي أنشأها معهد الكاناري للمنقوشات الليبية الأمازيغية نص عزيب ن إيكيس على النحو التالي:

WZ3Z3:WRTHL.Z3N. TGT

في هذا التأويل الڭرافي لمعهد الكاناري ثلاث نقاط ضعف نلخصها في ما يلي:

أولاـ لا يكون لنص عزيب ن إيكيس بهذا التأويل الڭرافي أي معنى، وبالتالي فليست له قيمة لسانية تاريخية.

ثانياـ أنه لا يعطي للڭرافيم M أية قيمة صوتية واضحة، إذ يؤول هذا الڭرافيم على أنه Z3 دون أن يُحدد المضمون الصوتي لهذه الرموز.

ثالثاـ أنه لا يأخذ ملاحظة الخيري المهمة بعين الإعتبار ـ وهي الملاحظة التي مفادها أن الحرف الأخير هو الڭرافيم المكون من أربعة خطوط متوازية عموديا (وهو الغين أو القاف على الأرجح).

لذلك أقترح أن نجري ثلاثة تعديلات طفيفة على التأويل الڭرافي لمعهد الكاناري وهي:

1ـ أن نعوض الڭرافيم الأخير بذاك الذي اقترحه الخيري (أي الڭرافيم المكون من أربع خطوط متوازية عموديا ذو القيمة الصوتية /ɣ/ أو /q/)

2ـ أن نعوض Z3 بما يدل على الصوت /y/، إذ يوجد نفس الڭرافيم بهذه القيمة الصوتية على الأقل في 5 نسخ لتيفيناغ الإنتقالية (كما يسميها پتشلر) وهي الهوڭار، والصحراوية، وأدرار، الغات، والأير، لا يختلف عنها ڭرافيم عزيب ن إيكيس سوى في كونه أفقيا، بينما هو عمودي في النسخ الأخرى.

3ـ أن نحذف كل النقط التي بين الخيري أنها مجرد امتداد للرسم، لكن نحتفظ بالڭرافيم الخامس (الذي يدل على الصوت /n/ لأنه يحقق انسجاما دلاليا كما سنرى)

وبذلك سيصبح نص عزيب ن إيكيس كما يلي:

WYYNWRTHLYNTGɣ

فماذا يعني هذا الكلام؟

ماذا نفهم من نص عزيب ن إيكيس؟

بناء على تحليلنا الڭرافي لهذا النص، يمكن أن نحلله مورفولوجيا كما يلي:

W-YYN-WR-THLYN -T – Gɣ

اW : هي مصدري ندائي يُقرأ /wa/ سبق أن بينا في مقال سابق أنه منتشر في المنقوشات الأمازيغية القديمة ، هوضمير مفرد مخاطب (يوجد في لفظ “أهياوا” الشهير)

اYYN : تعنى في الأمازيغية القديمة “واحد”، وتنطق /iyin/ من الأدلة على ذلك أن اللفظ الدال على “واحد” في العديد من التنويعات الأمازيغية المعاصرة لا يزال ينطق بالصوت /i/ (أو بصائت مشموم) في بدايته. من ذلك: iyin ⵉⵢⵉⵏ في لهجة الأير، و yiyy ⵢⵉⵢⵢ في شانوا، و ǝǯ-ǝn ⴻⴶⴻⵏ في واحة سيوا.

اWR: أداة نفي تنطق /ur/ على الأرجح.

اTHLYN: تتكون هذه الكلمة من فعل قديم لا يزال يوجد في بعض التنويعات الأمازيغية اليوم، وهو الفعل المشتق من المادة 958 في معجم الجذور، كان في أصله يعني “التأخر” و”الإنحراف عن الطريق”، وينطق ehla ⵉⵀⵍⴰ إلا أن معنى هذه اللفظة تغير فيما بعد ليعني عند التوارڭ مثلا: “استمتع” وهذا هو لفظ ahal ⴰⵀⴰⵍ جمعها ihallen ⵉⵀⴰⵍⵍⴻⵏ تطلق على اجتماع الشباب والشابّات من أجل التسلية والإستمتاع بالوقت. و imehlan ⵉⵎⴻⵀⵍⴰⵏ هي “ألعاب الأطفال” و”التسلية” و”المتعة” و”الموسيقى”، إلخ. ومن معنى “المتعة” و”الإستمتاع” اشتقت الأمازيغية السوسية، مثلا، معنى “تزوج” itahl ⵉⵜⴰⵀⵍ، فهو نوع من “المتع”، وربما منه كذلك اللفظ الدارجي “طّهلا” بمعنى “اعتنى”.

و YYN ⵢⵢⵏ في آخر اللفظ صورة مطولة لنون الفعل غير المصرف في الأمازيغية.

اT: هو مصدري complementizer ربما ينطق at ⴰⵜ وقد ينطق ad.

اGɣ: هو فعل الكينونة مصرف في صيغة المفرد المتكلم المفرد. فيكون معناه “أكون”.

فإذا ركبنا هذه الكلمات في جملة مفيدة يكون المعنى:

ⵉⵉⵏ ⵓⵔ-ⵜⴰⵀⵍⴻⵏ ⴰⵜ ⴳⵉⵖ

معناها بالعربية على الأرجح هو:”أنا إنسان محروم من المتعة/العناية” أو “أنا إنسان تعيس” أو مجانس ذلك من المعاني. وبالإنجليزية: “I am a deprived person” أو “I am a miserable person”.

ما هو المعنى التداولي لنص عزيب ن إيكيس؟

بما أن كاتب نص عزيب ن إيكيس ليس هومن أنجز الرسم، فمن المرجح أنه كتب النص تعليقا على هذا الرسم الذي يتضمن صورة شخص بجسد (شبه) إنساني له وجه وأذنان كبيران نسبيا، ويد، وعلى جانبيه ما يبدو كالجناحين المبسوطين. لذلك فإن من الفرضيات الجيدة التي يمكن أن نصوغها بناء على المعطيات الموضوعية التي تنتج عن تحليلنا أن كاتب النص ربما كتب ما كتب سخرية من قبح وجه الشخص المرسوم أو استهجانا له. وربما كان يسخر ممن يرافقه من الإناث، فيصور المرسوم وكأنه يجعله يقول: “إني لم أجد من تمتعني بحبها بعد، فهلا فعلت ذلك؟”، فيكون وجه التفكه في حديثه أنه قبيح الوجه ذميم لن يفلح أبدا في مغازلته لمن يخاطبها.

إن كان تحليلنا صحيحا فهذا يعني أن أجدادنا لم يكونوا يغترون برسوم الكائنات المجنحة فيسرعون لتقديسها أو عبادتها، بل كانوا يسخرون منها ويتركون لغيرهم أثر سخريتهم منها.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments