الأمازيغ بين الخيار البلشفي والبديل المنشفي


منذ الخطاب الملكي بأجدير سنة 2001 مرورا بالتعديل الدستوري لسنة 2011 وصولا إلى الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2021، تكون الحركة الأمازيغية قد أكملت عقدين من الجمود والوهن. وضعية يكاد يتفق الجميع حول طبيعتها الكارثية بقدر اتفاقهم على عزوها إلى نسق مترابط من العوامل التي تمفصل فيها الذاتي مع الموضوعي.
غير أن حصول الإجماع حول ضرورة تجاوز وضعية الفتور والضمور هذه، لم يوازيه في المقابل اتفاق مماثل حول الخيار القمين بتحقيق عملية التجاوز. حيث أصبحنا أمام تقاطب حاد بين تيارين رئيسين يمكننا وصفهما، على سبيل التشبيه، بالتيار البلشفي والتيار المنشفي مع الاحتفاظ بالفوارق طبعا. فما هي الخطوط العريضة لأطروحتي كلا الخيارين؟ ما هي نقط تهاجرهما وحول ماذا تتفقان؟ وما هي العوامل التي أفرزت وضعية التضعضع والإنهداد أصلا؟ وما هي تجليات ومظاهر هذه الوضعية؟

قول في مظاهر التضعضع والوهن

هل يكفي التصريح بأن الحركة الأمازيغية تعيش شرطا تاريخيا موسوما بالوهن والضعف للتسليم بهذا الإدعاء وترقيته إلى مرتبة اليقين؟ بالتأكيد لا يكفي الإقرار اللفظي بهذا الوصف للتسليم به، بل يلزمنا الاستدلال عليه بالبينة والبرهان. وهو ما سنحاول تبيانه من خلال التمثيل على هذه الوضعية بمثالين واضحين وجليين:
أ – تشكيلة لجنة مراجعة الدستور:
ضمت اللجنة في عضويتها 19 عضوا، ولم يتجاوز الصوت الأمازيغي فيها (بمعناه الحركي) ممثلا واحدا هو الدكتور لحسن أولحاج، عضو لجنة البيان الأمازيغي. لتكون نسبة تمثيل الحركة الأمازيغية في هذه اللجنة لا تتجاوز 5%، وهو ما انعكس في المحصلة سلبا على طبيعة تناول الوثيقة الدستورية للأمازيغية التي وضعت عمليا في المرتبة الثانية بعد اللغة العربية.
ب – تمرير القوانين:
بعد اعتماد الدستور المعدل في يوليوز 2011، تلكأت الحكومتان المتعاقبتان وأغلبيتهما البرلمانية في استصدار القانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية. حيث انتظرت الحركة حتى شهر شتنبر 2019 ليتم الإفراج عن هذا القانون الذي لم يأت إلا ليزيد من منسوب التمييز السلبي تجاه الأمازيغية. بل الأكثر من ذلك أن الأغلبية الحكومية قد أصرت على تمرير قوانين أخرى تضرب رسمية هذه اللغة في مقتل، لا سيما القانون رقم 40.17 المتعلق بالقانون الأساسي لبنك المغرب والقانون رقم 04.20 المتعلق بالبطاقة الوطنية للتعريف الإلكتروني، علاوة على القانون رقم 113.13 المتعلق بالترحال الرعوي وتهيئة وتدبير المجالات الرعوية…

قول في تمفصل الذاتي مع الموضوعي

لقد تبين لنا من خلال المثالين اللذين سقناهما فيما سبق، أن صانع القرار السياسي في المغرب لم يعر الاهتمام الكافي للحركة الأمازيغية ولمرافعاتها المطلبية. بل تعامل معها على أساس أنها مجرد رقم غير جدير بأخذه في الحسبان في تدبير تدافعات موازين القوى المجتمعية. وهو ما يحتم علينا التساؤل: ما هي طبيعة الأسباب التي جعلت الحركة غير قادرة على التأثير بقوة في صناع القرار إلى حد الحد؟
للإجابة عن هذا السؤال، يتفق نشطاء الحركة الأمازيغية أنفسهم على أن صيرورة الضعف والركود التي آلت إليها الحركة الأمازيغية تعزى أساسا إلى جملة من العوامل الذاتية والموضوعية.
أ- العوامل الذاتية:
تتجلى أهم هذه العوامل أولا في إصابة أغلب الرموز التاريخية للحركة بداء “الميگالومانيا” ودخولهم في صراعات بينذاتية أفضت إلى تشتيت الفعل الترافعي الأمازيغي بدل تنسيقه، وثانيا في تخاذل بعض هذه القيادات وسقوطهم في فخ الوصولية النرجسية على حساب القضية الأمازيغية، وثالثا في ضعف القوة التنظيمية للحركة وعدم قدرتها على تجاوز المنطق النخبوي إلى اختراق الكتلة الجماهيرية، ثم أخيرا عدم قدرة الحركة على تطوير خطابها وآليات تصريفه.
ب – العوامل الموضوعية:
يجرنا الحديث عن جمود الحركة الأمازيغية وتقهقر منسوب منجزها النضالي إلى الإقرار بوجود علاقة تمفصل واضحة بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي. تتجلى أهم الأسباب الموضوعية في المخططات التي صاغتها الدولة من أجل استقطاب الفاعلية الأمازيغية واحتوائها، كما هو الشأن مثلا بالنسبة لإحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2001 ثم إحداث القناة التلفزيونية الثامن سنة 2010. هذا علاوة على وضع المتاريس والمعيقات أمام كل المبادرات الأمازيغية التي لا تلتقي مع سياسة الدولة تجاه القضية الأمازيغية، وهو ما يمكن الاستدلال عليه بحل الحزب الديمقراطي الأمازيغي وعرقلة مختلف المشاريع الرامية إلى تأسيس حزب وطني بمرجعية أمازيغية.

الخيار البلشفي والبديل المنشفي

أشرنا في ما سبق إلى أن الخلاف والتباين لم يحصل بين نشطاء الحركة الأمازيغية لا في تشخيص مظاهر الضعف التي ألمت بالحركة والإقرار بها، ولا في تعيين العوامل التي أفرزت وضعية التضعضع. وإنما حصل الخلاف بشأن المنهجية الكفيلة بالخروج من هذه الوضعية إلى حالة التعافي، فكان أن انقسم الجمع إلى فريقين حذا أحدهما حذو البلاشفة في روسيا القيصرية فيما اختار ثانيهما التخندق على النقيض مع خيار المناشفة.
أ – في معنى البلاشفة والمناشفة:
معلوم أن الماركسيين في روسيا القيصرية كانوا منضوين تحت لواء “حزب العمل الاجتماعي الديمقراطي”. غير أن انشقاقا حادا سيحصل فيما بينهم خلال المؤتمر المنعقد سنة 1903، حيث تزعم مؤسس الإتحاد السوفياتي فيما بعد “فلاديمير لينين” تيار “البلاشفة” الذين كانوا يؤمنون بحتمية التغيير الجذري المتأتي من الوصول إلى السلطة عبر آلية الثورة.
فيما تزعم “يوليوس مارتوف” تيار “المناشفة” الذين كانوا يؤمنون بالتغيير السلمي عبر العمل جنبا إلى جنب مع الطبقة الوسطى / البرجوازية من أجل خلق نظام ليبرالي رأسمالي في كخطوة أولى تقود نحو تحقيق الثورة الاشتراكية في وقت لاحق.
ب – تيار البلاشفة الأمازيغ:
الأكيد أن تشبيه من أسميناهم “البلاشفة الأمازيغ” بأتباع “فلاديمير لينين” إنما يعود إلى اشتراكهما في مطلب “التغيير الجذري” وليس إلى آلية تحقيق هذا التغيير. وذلك على اعتبار أن الحركة الأمازيغية – كما هو معلوم في أدبياتها – لا تؤمن أصلا بالتغيير الثوري المسلح.
فأمام وضعية الجمود التي طبعت مسار الحركة الأمازيغية خلال العقدين الأخيرين وما ترتب عنها من تراجعات مست جوهر القضية الأمازيغية برمتها، بدأ تيار يتشكل أساسا من الشباب الذين ينشطون على مواقع التواصل الاجتماعي ومن طلبة الحركة الثقافية الأمازيغية داخل الجامعة. تيار وغن لم يستطع تشكيل مشروع مجتمعي متكامل وواضح المعالم إلا أن رؤيته للواقع محكومة بعدم الثقة في المؤسسات وفي النسق السياسي ككل، وهو ما جعله يتمترس وراء مطلب “التغيير الجذري” لطبيعة السلطة وبنية النظام ككل.
جـ – تيار المناشفة الأمازيغ:في مقابل التيار البلشفي الأمازيغي، الذي يبدو خطابه متسما بغير قليل من الطوباوية الحالمة (لا سيما في ظل عدم اجتراحه لآليات مادية وملموسة لتصريف هذا الخطاب، وبالتالي تحقيق التغيير الجذري الذي يطالب به)، برز تيار ثان آثرنا تسميته بتيار “المناشفة الأمازيغ” كنوع من المماثلة النسبية بينه وبين تيار “مارتوف”. أما وجه الشبه الذي استندنا إليه فهو اتفاقهما على استبعاد أية إمكانية لتحقيق التغيير الجذري لمنظومة الحكم، وإقرارهما بمنهجية “التغيير الديمقراطي” من داخل النسق السياسي للنظام نفسه وليس من خارجه.
غير أن هذا التيار سرعان ما سينقسم بدوره إلى توجهين وقعا بدورهما على طرفي النقيض، توجه وإن كان يقر بضرورة الانخراط داخل النسق السياسي لنظام الحكم، إلا أنه يشترط لذلك بناء آليته التنظيمية الخاصة به والمؤطرة بالحدود الدنيا من المرجعية الأمازيغية، ويمثله نشطاء الحركة الذين يحاولون منذ مدة ليست بالقصيرة تأسيس حزب سياسي لهم. فيما يعارض التوجه الثاني فكرة تأسيس حزب خاص بنشطاء الحركة الأمازيغية ويشتغل ضمن دائرة أدبياتها المؤسسة، بل يدعو إلى الانخراط في منظومة الأحزاب المشكلة لبنية النظام السياسي القائم والعمل ضمن هياكلها والتأثير في قراراتها بما يخدم القضية الأمازيغية.

قول على سبيل الاستنتاج

إذا تقرر، حسب ما تقدم من تشخيص وتحليل، أن الحركة الأمازيغية تعيش بالفعل مرحلة متقدمة من الوهن النضالي الناجم عن تضافر جملة من العوامل الذاتية والموضوعية، مما بات معه سؤال: ما الحل؟ سؤالا ذات ملحاحية واستعجالية، فإن النظر الموضوعي في البدائل المطروحة على الساحة اليوم يحتم علينا استبعاد “الخيار البلشفي” لطبيعته الطوباوية ولافتقاره للآليات الواقعية لتحقيق “تغييره الجذري”. كما يحتم علينا في المقابل التصريح بأن تاريخ وراهن الممارسة السياسية لأحزاب النظام السياسي القائم يفقد أطروحة “البديل المنشفي” الداعي إلى الإنصهار فيها أية حجية للأخذ به. فيما تظل – في نظرنا – أطروحة “البديل المنشفي” الداعية إلى “التغيير الديمقراطي” داخل النسق السياسي القائم بواسطة آلية تنظيمية وخطاب إيديولوجي مغايرين أقرب إلى الواقعية السياسية.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments