“ظهير 16 ماي 1930”: النص الكامل



لابد من البدء بالإشارة إلى أن مصطلح “الظهير البربري” هو مصطلح مزيف ومفبرك اخترعه بعض أعيان سلا وفاس عام 1930 وتم ترويجه منذئذ في الجرائد والكتب المدرسية والمؤلفات على أنه الإسم الحقيقي لظهير 16 ماي 1930. الإسم الفرنسي الأصلي للظهير كما صدر في الجريدة الرسمية المغربية في نسختها الفرنسية (عدد 918 بتاريخ 30 ماي 1930) هو:

Dahir du 16 mai 1930 réglant le fonctionnement de la justice dans les tribus de coutume berbère non pourvues de mahkamas pour l’application de Chrâa

وترجمته إلى العربية: “ظهير 16 ماي 1930 المنظم لسير العدالة في القبائل ذات الأعراف البربرية التي لا تتوفر على محاكم لتطبيق الشرع (الشريعة)”.

أما في النسخة العربية للجريدة الرسمية (عدد 919 بتاريخ 6 يونيو 1930) فتمت تسمية الظهير على الصفحة الأولى للجريدة كالتالي: “ظهير شريف، يصبح بموجبه قانونيا مطابقا للأصول المرعية سير شؤون العدلية الحالي في القبائل ذات العوائد البربرية التي لا توجد فيها محاكم مكلفة بتطبيق القواعد الشرعية.”

وحتى لو تحاجج البعض بطول الإسم الحقيقي للظهير، فذلك لا يبرر نسبته للبربر وكأنهم من كتبه وأصدره. وربما كان من الجائز أن يسمى “الظهير الفرنسي” أو “الظهير العقاري” (لأنه يتمحور حول تسهيل نزع الأراضي الأمازيغية ومنحها للفرنسيين وتقييد سلطات رؤساء القبائل الأمازيغية). أما الإسم الأكاديمي المحايد للظهير فهو طبعا: “ظهير 16 ماي 1930”. فالمعلوم أن كل الظهائر الملكية (ومن بينها الظهائر التي يصدرها الملك محمد السادس اليوم) يشار إليها عادة في المحاكم والبرلمان ووسائل الإعلام بالتاريخ الذي صدرت فيه.

ظهير 16 ماي 1930 كتبته سلطات الإحتلال الفرنسي على أيدي موظفيها المغاربة والفرنسيين (ككل الظهائر الأخرى في عهد الإستعمار) من أجل تحقيق هدف فرنسا النهائي وهو الإستيلاء “القانوني” على الأراضي الفلاحية التي كانت في ملكية القبائل الأمازيغية. ووقّع الملك محمد الخامس على هذا الظهير بجانب توقيع المقيم العام لوسيان سان Lucien Saint وتوقيع الصدر الأعظم (الوزير الأول) محمد المقري.

قد يستغرب البعض من الحديث عن ظهير قديم لم يعد له وجود قانوني اليوم. ولكن المشكلة هي أن الكثيرين يستخدمون اليوم هذا الظهير (بتأويل بعيد عن الدقة والموضوعية) كورقة ابتزاز ضد الأمازيغية لغة وهوية وثقافة وحضارة، متهمين المدافعين عن هوية المغرب الأمازيغية بـ”محاولة إحياء الظهير البربري” و”النعرات” و”التفرقة”…إلخ.

ورغم أن كثيرين من “فرسان البلاغة” و”حراس الوحدة الوطنية” لم يكترثوا يوما بقراءة النص الحقيقي للظهير أو الإطلاع على سياقه التاريخي، إلا أنهم يحاولون في كل مناسبة تمرير هذه “البروباغاندا العتيقة” (التأويل المغلوط للظهير) وكأنها تعبر عن حقيقة تاريخية. ومن خلالها يمررون “البروباغاندا الجديدة” المتمثلة في أجنداتهم السياسية والأيديولوجية النكوصية والرجعية التي تريد التخلص من الأمازيغية تاريخا وهوية وحضارة ولغة وتعويضها بالبرامج الأيديولوجية المستوردة من الشرق الأوسط. وهم يستغلون عدم اطلاع الأغلبية الساحقة من المغاربة اليوم على النص الحقيقي والكامل للظهير، ويستغلون أيضا عدم علم أغلبية المواطنين إلى يومنا هذا بحقيقة أن الأعراف والقوانين الأمازيغية كانت موجودة حيز التطبيق بالبلدان الأمازيغية طيلة عشرات القرون، قبل وبعد الإستعمار، وقبل وبعد دخول الإسلام واليهودية والمسيحية، وقبل عهود الرومان والوندال والفينيقيين والإغريق.

حل مشكلة الظهير: قراءة الظهير

إذن فالسبيل الوحيد لحل هذا المشكل العجيب هو أن يطلع المغاربة بأنفسهم وأم أعينهم على النص الحقيقي والكامل للظهير ويحكموا عليه بأنفسهم وبعقولهم بدل أن يتركوا تجار الأيديولوجيا والسياسة يفكرون مكانهم ويملأون رؤوسهم بالأكاذيب والخزعبلات.

إننا حينما نفضح أسطورة “الظهير البربري” ومشتقاتها كأكذوبة “تنصير البربر” وأكذوبة “التفريق بين العرب والبربر” فنحن لا ندافع عن التاريخ الإجرامي الحقير والقذر لفرنسا وإسبانيا في بلادنا، وإنما نشير إلى أن “المؤامرة الإستعمارية” لم تكن في ظهير تافه هنا أو قانون سخيف هناك. وإنما “المؤامرة الكبرى” كانت هي الإحتلال الفرنسي الإسباني في حد ذاته!

المؤامرة كانت هي “معاهدة الحماية” في حد ذاتها!

المؤامرة كانت هي التعامل مع الإستعمار وقبول حمايته وسلطته والإعتراف بشرعية وجوده!

المؤامرة كانت هي “كراء” المغرب بأكمله لدولتين أجنبيتين وكأنه مزرعة أو زريبة حيوانات!

تْبعْ الكداب تال باب الدار:

رغم توقيع السلطان عبد الحفيظ لـ”معاهدة الحماية” عام 1912 واستسلامه أمام الغزو الفرنسي وإضفائه الشرعية القانونية على وجود فرنسا وإسبانيا بالمغرب، رفضت القبائل الأمازيغية هذه المعاهدة جملة وتفصيلا. ووقفت المقاومة الأمازيغية في وجه الإحتلال الفرنسي الإسباني بالهراوة والمنجل والحديد والنار، بينما كان المئات من أعيان فاس وسلا (الطفيليات البورجوازية والمخزنية) محميين قانونيا من طرف قنصليات الأوروبيين حيث تم إعفاء بعضهم من دفع الضرائب للمخزن (لسنوات قبل دخول الإحتلال)، وكانوا يتحاكمون مع بقية مواطني الإيالة الشريفة لدى محاكم القنصليات الأوروبية بالمغرب حسب القوانين الأوروبية عوض قوانين المخزن أو قوانين القبائل الأمازيغية. ذلك هو المعنى الحقيقي لـ”الحماية”.

إنها “حماية” الأعيان والبورجوازيين وعملاء الدول الأوروبية من ضرائب وبطش المخزن ومن حكم وبطش القبائل الأمازيغية.

وقبيل دخول الإستعمار كان كل واحد من هؤلاء الفاسيين والسلاويين المحميين يرفع على سطح بيته علم الدولة الأوروبية التي تحميه.

هل نعرف الآن لماذا سمي ذلك الإستعمار والإحتلال بـ”الحماية”؟ حماية من ضد من؟ من هم الذين دخلوا تحت حماية فرنسا وإسبانيا، ومن هم الذين حاربوهما بالحديد والنار مدة ثلث قرن؟
إن الإطلاع على النص الكامل لهذا الظهير هو عمل بمبدإ “تبع الكداب تال باب الدار”. وهذا ضروري للوصول إلى الحقائق التاريخية ورفع اللبس عن جزء مهم من تاريخنا الوطني الذي طاله الكثير من التزوير والتشويه.

إن مروجي الأكاذيب التي تدور حول “الظهير البربري” اليوم لا يريدون من أبناء وبنات الشعب أن يطلعوا على المضمون الحرفي والحقيقي للظهير، وإنما يريدون أن “يخبروهم” عن الظهير و”يشرحوه” لهم ويمرروا من خلال ذلك “الشرح” أيديولوجياتهم وأكاذيبهم وكأنها حقائق تاريخية لا غبار عليها تشكل جزءا من ذلك الظهير.

لهذا السبب تزدحم كتب التاريخ المدرسي بذكر “الظهير البربري” و”تحليله” و”شرحه” و”تأويله” ولكنها لا تجرؤ أبدا على ذكر مقتطف ولو صغير منه، ناهيك عن إيراد نصه الكامل ليطلع عليه التلاميذ والطلبة.

النص الكامل:

لدينا هنا النص الأصلي والحرفي والكامل لظهيرين ملكيين منشورين في الجريدة الرسمية:

1) ظهير 11 شتنبر 1914 الذي يعترف بحق القبائل في أن تستمر في تطبيق قوانينها وأعرافها الأمازيغية (العوائد المحلية) في القضاء (العدلية)، وهو موقع من طرف السلطان مولاي يوسف والمقيم العام Hubert Lyautey.

2) ظهير 16 ماي 1930 (ما يسمى خطأ بـ”الظهير البربري”) الذي يؤكد مجددا على اعتماد الأعراف الأمازيغية (العوائد المحلية) في مجال القضاء لدى عدد من القبائل ويبين الإجراءات العملية، ودور رؤساء القبائل وحدود سلطتهم، ووضعية المحاكم العرفية تجاه محاكم الإحتلال الفرنسي. وهذا الظهير تم توقيعه من طرف الملك محمد الخامس والمقيم العام Lucien Saint.

ظهير 11 شتنبر 1914

(نشر بالجريدة الرسمية عدد 73 بتاريخ 18 شتنبر 1914)

الحمد لله وحده،

ظهير شريف في شأن ما يتعلق بأمور القبايل البربرية بالإيالة الشريفة.

يعلم من كتابنا هذا أسماه الله وأعز أمره أنه لما كانت القبايل البربرية تتهارع للدخول في طاعة جنابنا الشريف بسبب انتشار الأمن فيهم وكانت لهم عـوايد خصوصية يجرون عليها أعمالهم من قديم ويصعب عليهم الخروج عنها، وكان غرض جنابنا الشريف السعي فيما يسود به الأمن ويعم به الصلاح والاطمئنان في رعيتنا السعيدة اقتضى نظرنا السديد إقرارهم على عوايدهم وتسليم ما يجرونه عليها من أعمالهم ومن أجله أصدرنا أمرنا الكريم بما يأتي:

– الفصل الاول: أن القبايل البربرية الموجودة بإيالتنا الشريفة تبقى شؤونها جارية على مقتضى قوانينها وعوايدها الخصوصية تحت مراقبة ولاة الحكومة.

– الفصل الثاني: تصدر قرارات من الصدر الأعظم بعد الموافقة مع الكاتب العام لدى الدولة الشريفة في تعيين القبايل المتبعة للعوايد البربرية كما يقع تعيين ما ينطبق على تلك القبايل والقوانين والضوابط الصادرة بها، والسلام.

وحرر برباط الفتح في 20 شوال عام 1332 الموافق 11 سبتمبر سنة 1914.

محمد بن محمد الجباص.

اطلع عليه المقيم العام وأذن بنشره.

رباط في 15 سبتمبر سنة 1914، ليوطي.

ظهير 16 ماي 1930 (ما يسمى خطأ بـ”الظهير البربري”)

(نشر بالجريدة الرسمية عدد 919 بتاريخ 6 يونيو 1930)

الحمد لله وحده.

ظهير شريف.

يصبح بموجبه قانونيا مطابقا للأصول المرعية سير شؤون العدلية الحالي في القبائل ذات العوائد البربرية التي لا توجد فيها محاكم مكلفة بتطبيق القواعد الشرعية.

يعلم من كتابنا هذا أسماه الله وأعز أمره أنه حيث أن والدنا المقدس بالله السلطان مولاي يوسف قد أصدر ظهيرا شريفا مؤرخا في 20 شوال عام 1332 الموافق 11 شتنبر سنة 1914 يأمر فيه باحترام ومراعاة النظام العرفي الجاري العمل به في القبائل التي استتب الأمن فيها وذلك حبا في مصلحة رعايانا واطمئنان دولتنا الشريفة.

وحيث قد صدر للغرض نفسه ظهير شريف مؤرخ في 19 شوال عام 1340 الموافق 15 يونيو سنة 1922 بتأسيس قواعد خصوصية متعلقة بتفويت العقارات للأجانب بالقبائل ذات العوائد البربرية التي لا توجد فيها محاكم مكلفة بتطبيق القواعد الشرعية.

وحيث أن قبائل عديدة قد أدرجت منذ ذلك الحين بطريقة قانونية من طرف وزيرنا الصدر الأعظم في عدد القبائل التي ينبغي احترام ومراعاة نظامها العرفي.

وحيث أنه أصبح الآن من المناسب تعيين الشروط الخصوصية التي ينبغي اتباعها في مباشرة العدلية والقضاء بين من ذكر مع احترام العوائد المذكورة أصدرنا أمرنا الشريف بما يأتي:

– الفصل الأول: أن المخالفات التي يرتكبها المغربيون في القبائل ذات العوائد البربرية بإيالتنا الشريفة والتي ينظر فيها القواد في بقية نواحي مملكتنا السعيدة يقع زجرها هناك من طرف رؤساء القبائل.

وأما بقية المخالفات فينظر فيها ويقع زجرها طبق ما هو مقرر في الفصلين الرابع والسادس من ظهيرنا الشريف هذا.

– الفصل الثاني: أنه مع مراعاة القواعد المتعلقة باختصاصات المحاكم الفرنسوية بإيالتنا الشريفة فإن الدعاوي المدنية أو التجارية والدعاوي المختصة بالعقارات أو المنقولات تنظر فيها محاكم خصوصية تعرف (بالمحاكم العرفية) ابتدائيا أو نهائيا بحسب الحدود (المقدار) يجري تعيينها بقرار وزيري.

كما تنظر المحاكم المذكورة في جميع القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية أو بأمور الإرث وتطبق في كل الأحوال العوائد المحلية.

– الفصل الثالث: أن استـئناف الأحكام الصادرة من طرف المحاكم العرفية يرفع أمام محاكم تعرف بالمحاكم العرفية الاستئنافية وذلك في جميع الأحوال التي يكون فيها الاستئناف مقبولا.

– الفصل الرابع: أن المحاكم الاستئنافية المشار إليها تنظر أيضا في الأمور الجنائية ابتدائيا ونهائيا بقصد زجر المخالفات المشار إليها في الفقرة الثانية من الفصل الأول أعلاه وكذلك زجر جميع المخالفات التي يرتكبها أعضاء المحاكم العرفية التي يطوق باختصاصاتها الاعتيادية رئيس القبيلة.

– الفصل الخامس: يجعل لدى كل محكمة عرفية ابتدائية أو استئنافية مندوب مخزني مفوض من طرف حكومة المراقبة بالناحية التي يرجع إليها أمره ويجعل أيضا لدى كل واحدة من المحاكم المذكورة كاتب مسجل يكون مكلفا أيضا بوظيفة موثق.

– الفصل السادس: أن المحاكم الفرنسوية التي تحكم في الأمور الجنائية حسب القواعد الخاصة بها لها النظر في زجر الجنايات التي يقع ارتكابها في النواحي البربرية مهما كانت حالة مرتكب الجناية.

ويجري العمل في هذه الأحوال بالظهير الشريف المؤرخ في 12 غشت سنة 1913 المتعلق بالمرافعات الجنائية.

– الفصل السابع: أن الدعاوي المتعلقة بالعقارات إذا كان الطالب أو المطلوب فيها من الأشخاص الراجع أمرهم للمحاكم الفرنسوية فتكون من اختصاصات المحاكم الفرنسوية المذكورة.

– الفصل الثامن: أن جميع القواعد المتعلقة بتنظيم المحاكم العرفية وتركيبها وسير أعمالها تعين بقرارات وزيرية متوالية تصدر بحسب الاحوال ومهما تقتضيه المصلحة.

والسلام.

وحرر بالرباط في 17 حجة عام 1348 الموافق 16 ماي 1930.

قد سجل هذا الظهير الشريف في الوزارة الكبرى بتاريخ 17 حجة عامه الموافق 16 مايو سنته.

محمد المقري.

اطلع عليه وأذن بنشره، الرباط في 23 مايو سنة 1930.

القومسير المقيم العام: لوسيان سان.

انتهى نص الظهير.

إشارات مهمة وخلاصات جوهرية:

– لا تحتوي الظهائر على أي نص يقر أو يأمر أو يدعو إلى التمييز بين البربر و”العرب”. بل إن “العرب” ليسوا مذكورين في أي ظهير مغربي كان.

– لا تحتوي الظهائر على أي نص يقر أو يأمر بـ”تنصير البربر” أو يتدخل في المجال الديني والعقدي من قريب أو من بعيد.

– ازدواجية القانون المخزني (المركزي) – العرف الأمازيغي (المحلي) كانت موجودة بسلطنة مراكش العلوية قبل دخول الإستعمار بوقت طويل وكانت مقرونة باستقلال ذاتي إداري واقتصادي للقبائل عن الحكم المركزي في العاصمة (فاس/مكناس/مراكش).

– الفصل الأول من ظهير 16 ماي 1930 يقدم الدليل القاطع على أن تطبيق الأعراف الأمازيغية ضمن النفوذ الترابي للقبائل يتم على أساس ترابي يدخل تحت طائلته “المغربيون” التي ارتكبوا مخالفات داخل منطقة نفوذ القبيلة الأمازيغية المعينة. إذن كل المواطنين يدخلون تحت نفوذ القانون العرفي الأمازيغي في مجال نفوذ القبيلة الجغرافي دون تمييز.

– ظهير 16 ماي 1930 لم يكن موجها للتطبيق إلا على جزء من القبائل الأمازيغية، وليس على كلها، حيث أن الصدر الأعظم (الوزير الأول) كان قد حدد عدد القبائل التي ينطبق عليها إنشاء المحاكم العرفية الأمازيغية.

– تلك القبائل لم تكن تطبق الشريعة الإسلامية قبل دخول الإستعمار وإنما كانت تطبق الأعراف الأمازيغية بشكل مستقل عن المخزن. وبالتالي فالظهير لم يأت بجديد في ذلك المجال.

– سلطات الإحتلال لم ترغم القبائل على اتباع الأعراف الأمازيغية واستبعاد الشريعة الإسلامية (لأنه لا مصلحة لها في ذلك). بل إنه كان مسموحا للقبائل أن تختار التخلي عن العرف الأمازيغي والإنتقال إلى الشريعة أو العكس. الشيء الوحيد والجديد الذي فرضته سلطات الإحتلال هو: المحاكم الفرنسية (وهدفها هو حماية الفرنسيين قانونيا وقضائيا وتسهيل نهبهم لثروات البلاد).

– النظام العرفي الأمازيغي في مجال القضاء في المنازعات والجنايات والأحوال الشخصية والتنظيم الفلاحي والعقاري كان معمولا به في كل البلدان الأمازيغية بشمال أفريقيا قبل وبعد دخول الإسلام.

– جوهر ظهير 16 ماي 1930 كان هو الإعتراف بالعرف القضائي الأمازيغي وتأكيد استمراريته في مجال الأحوال الشخصية والمخالفات الفردية (وهي مجالات لا تكترث بها فرنسا كثيرا). أما الهدف الأهم بالنسبة لفرنسا فكان نزع صلاحيات العرف الأمازيغي في مناطق القبائل في مجال الجنايات وفي المنازعات العقارية التي يتورط فيها فرنسيون، ومنحها للمحاكم الفرنسية بالمغرب (من أجل حماية الفرنسيين).

– سلطات الإحتلال الفرنسي كانت ستستفيد بكل هذه الظهائر في شيئين جوهريين: أولهما هو شرعنة وتسهيل استيلائها على أراضي القبائل الأمازيغية من أجل استغلالها في الفلاحة والتعدين المنجمي، وثانيهما هو تطييب خواطر القبائل بمنحها حق الإحتفاظ بأعرافها وقوانينها من أجل استتباب الأمن والإستقرار بالبلاد خصوصا في البوادي والقرى حيث يعيش معظم سكان البلاد وحيث توجد المقاومة المسلحة وعقلية العناد والعصيان الأمازيغي في أقصى درجاتها.

– سلطات الإحتلال أرادت جعل القضاء الفرنسي أسمى من القضاء العرفي الأمازيغي فيما يخص قضايا ملكية الأراضي بالذات والمنازعات بين المستوطنين الفرنسيين والأمازيغ. والهدف طبعا هو تسهيل استيلاء المستوطنين الفرنسيين على الأراضي الفلاحية الأمازيغية. أما المنازعات بين السكان المحليين وقضايا الأحوال الشخصية والإرث وزجر المخالفات البسيطة فتركتها فرنسا على حالها في إطار سلطة وأعراف القبائل.

التنصير ونشر المسيحية:

– سلطات الإحتلال لم تحاول نشر المسيحية ولم يكن ذلك من مصلحتها ولا من اهتماماتها. ففرنسا كانت أولا وأخيرا دولة علمانية محايدة دينيا.

– توافد المبشرين الفرنسيين والإسبان لم يكن يختلف عن توافد المستوطنين والتجار الفرنسيين والإسبان. هؤلاء يبحثون عن المجد الديني وأولئك يبحثون عن الربح المادي.

– لو كانت سلطة الإحتلال الفرنسي تريد تغيير عقلية الشعب المغربي الأمازيغي لقامت بنشر أفكار الحرية والإخاء والمساواة والتنوير والعلمانية والديموقراطية وحقوق الإنسان والمنهج العلمي، ولجعلت المغرب نسخة من فرنسا يعج بالمدارس والجامعات والمتاحف والأوبرات، ولكنها لم تفعل ذلك لأن هدفها كان ينحصر في سرقة الثروات والناس نيام يغطون في سبات التخلف والجهل والظلام. فرنسا كانت تريد للمغرب أن يبقى تقليدي العقلية وأن يبقى أهله فلاحين بدويين أميين، حتى يسهل عليها استغلال البلاد لأطول مدة ممكنة.

– أكذوبة / خرافة “تنصير البربر” اختلقها بعض أعيان سلا وفاس إما عن سوء فهم للظهير أو لأنها كانت أفضل وسيلة لنشر الهستيريا في صفوف السكان وتأليبهم على الظهير أو على فرنسا. وهذه الخرافة انتشرت كالنار في الهشيم عبر خطب أئمة المساجد في فاس وسلا والرباط وعبر قراءة “دعاء اللطيف” (“اللهم يا لطيف نسألك اللطف فيما جرت به المقادير، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر”).

– كانت الأفكار السلفية (النسخة التقليدية وليست الحالية) منتشرة في بعض المدن آنذاك (ومن بين مظاهرها مثلا انتشار ارتداء اللثام لدى نساء بعض المدن وغيابه في البوادي والقرى)، وهذا قد يفسر معارضة بعض سلفيي فاس وسلا للقانون العرفي الأمازيغي من حيث المبدإ. ولكن ذلك لا يفسر عدم انتباه هؤلاء “الوطنيين” والسلفيين الفاسيين والسلاويين، قبل 1930 بسنوات طويلة، لظهير 15 يونيو 1922 أو لظهير 11 شتنبر 1914 اللذين كانا يؤكدان تأكيدا قاطعا على حق القبائل في الإحتفاظ بأعرافها القضائية الأمازيغية وتطبيقها. فضلا عن كون تطبيق العرف الأمازيغي موجودا منذ قرون في معظم المناطق قبل وبعد دخول الإسلام، وطيلة حكم المرابطين والموحدين والمرينيين والعلويين.

– لو كان هؤلاء الأعيان والسلفيون والأئمة في فاس والرباط وسلا خائفين فعلا من التنصير وانتشار المسيحية بالمغرب لثاروا وانتفضوا ونظموا المظاهرات وهيجوا المصلين في المساجد ضد توافد مئات المبشرين الفرنسيين والإسبان وضد بناء ما مجموعه حوالي 25 كنيسة مرخص لها في مدن فاس والرباط وسلا والدار البيضاء ووجدة والناظور وطنجة وأكادير والجديدة والعرائش والفنيدق ومكناس منذ دخول الإحتلال عام 1912، لكنهم لم يفعلوا أي شيء من ذلك القبيل على الإطلاق!

– فمثلا تم تدشين كنيسة Saint Piérre بالرباط عام 1921 دون أن يحتج أحد أو يتظاهر أحد. كما أن كاتدرائية الدار البيضاء العملاقة Église du Sacré-Cœur de Casablanca بنيت عام 1930 (وهي نفس سنة صدور ما يسمى بـ”الظهير البربري”). ولكن أعيان فاس والرباط وسلا و”حراس الملة والدين” لم يكترثوا للكنائس المسيحية المنتصبة أمام أنوفهم في وسط الرباط والدار البيضاء وفاس وغيرها في واضحة النهار، وفضلوا “حماية بربر الجبال والسهول الضعفاء المساكين” من مؤامرة “التنصير الفرنسي” المضحكة!
أما القبائل الأمازيغية التي سحقت الجيوش الإسبانية والفرنسية في مئات المعارك وقدمت نصف مليون شهيد في ساحات الحرب ما بين 1907 و1934 وخبرت معدن الإسبان والفرنسيين بعمق فقد كانت آخر من يفكر في اعتناق النصرانية أو القبول بأي شيء يأتي به الفرنسيون أو الإسبان.

والمغربي الوحيد المعروف الذي اعتنق المسيحية بشكل علني في عهد الإحتلال هو Jean Mohamed Ben Abdeljlil وهو سليل عائلة فاسية معروفة. وكان قد درس القرآن في جامعة القرويين ورافق والديه وهو صغير إلى مكة لتأدية فريضة الحج، ودرس في ثانوية فرنسية بالرباط قبل أن يعتنق المسيحية عام 1928 وعمره 24 سنة، ثم أصبح قسا كاثوليكيا فيما بعد.

خاتمة:

لا نعرف بالضبط ما الذي كان يدور برؤوس هؤلاء السلاويين والرباطيين والفاسيين الذين نشروا الإشاعات والأكاذيب حول ظهير 16 ماي 1930، ولكن نيتهم في الكذب والتلفيق والمبالغة (لغرض قد يكون صالحا أو فاسدا أو تافها) واضحة. وذلك لأن بعضا منهم على الأقل تمكن من الإطلاع على نص الظهير بالعربية والفرنسية. بل إن زعيم الحملة المضادة للظهير (عبد اللطيف الصبيحي) كان موظفا لدى سلطة الإحتلال الفرنسي يتقاضى منها راتبا شهريا. أي أنهم عرفوا جيدا أن الظهير لم يكن ينص على تنصير أحد ولا على التفرقة بين أفراد الشعب ولا يحزنون.

أما أفراد الشعب فكانوا في الغالب أميين لا يقرأون ولا يكتبون ولم يطلعوا أبدا على نص الظهير وإنما استمعوا فقط إلى خطب أئمة المساجد وأقوال الأعيان وإشاعات الشوارع والأزقة حول “تنصير البربر” و”التفرقة”.

ولابد أن سلطات الإحتلال الفرنسي قد اندهشت إلى حد الحنق من المظاهرات التي خرجت ضد هذا الظهير التافه الذي لم يأت بجديد ولا بشيء فوق العادة، والذي جاء مؤكدا لما جاءت به ظهائر 1914 و1922. ولكنها لم تستسغ أية معارضة أو احتجاج شعبي عام 1930 خصوصا وأن رماد حروب الريف والأطلس الطاحنة ما زال متوهجا. فبدأت سلطات الإحتلال في محاولة إخماد المظاهرات بالقوة واعتقلت بعض المتظاهرين. وهذا عمق من ظنون الناس حول نية فرنسا في “تنصير البربر” ومحاربة الإسلام وشريعته، وأدى إلى تقوية التظاهرات والقلاقل لبعض الوقت.

ربما كان هؤلاء الذين اخترعوا الإشاعات حول ما يسمى بـ”الظهير البربري” ونشروا خزعبلة “تنصير البربر” وأكذوبة “التفرقة بين العرب والبربر” عام 1930 قد أرادوا الضغط على سلطات الإحتلال الفرنسي بعقلية “الغاية تبرر الوسيلة”. وقد يكونون وجدوا في الضجة العارمة المثارة حول الظهير فرصة لتحقيق مكاسب معينة كإشراكهم في الحكم ومنحهم المناصب. وقد يكون هناك تفسير مختلف تماما يمزج بين الصدفة والمؤامرة وسوء الفهم. ولكن ما يهمنا اليوم هو أن لا نسمح للسياسيين وأصحاب الأيديولوجيات الأمازيغوفوبية والرجعية والظلامية أن يستمروا في ابتزاز الشعب المغربي وتعريبه وتركيعه بأكذوبة “الظهير البربري”.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments