زَرعُ أحرضان وأكياس اكَديرة


حين أسس أحمد رضا اكديرة جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية سنة 1963، وهو تحالف سياسي ضم الحزب الدستوري الديموقراطي والأحرار المستقلين والحركة الشعبية، ومجموعة من الشخصيات السياسية التي يقال عنها مستقلة. حين أسس هذا الائتلاف؛ رفض المحجوب أحرضان مؤسس وزعيم الحركة الشعبية الانضمام إليه، ولكن بتدخل من الحسن الثاني انضم نواب الحركة الشعبية في البرلمان إلى هذه الجبهة، وشكلوا فيها الأغلبية.
في هذا السياق؛ قال أحرضان لرضا اݣديرة الذي كان مديرا للديوان الملكي ووزيرا للداخلية والفلاحة فيما بعد، ” نحن قد أتينا بالزرع وأنتم أتيتم بالكيس”. وهو كلام فيه سخرية ومعاني كثيرة.
عبارة أحرضان هذه؛ تجسد واقع تاريخي يعيشه الامازيغ في علاقتهم بالعمل السياسي، على الأقل منذ الاستقلال إلى اليوم. حيث لازال الامازيغ يأتون بالزرع والقمح وكل شيء في الجبال والسهول ويفرغونه في أكياس الآخرين.
لماذا أصبحت السياسة عقدة في العقل الأمازيغي؟
لماذا فشل/يفشل الامازيغ في وضع زرعهم داخل أكياسهم؟
نلاحظ حاليا أن الأحزاب السياسية المغربية يترأسها زعماء أمازيغ كالعثماني وأخنوش والعنصر وبنشماس ولشكر وآخرون، فعلا لا ننكر أن هؤلاء امازيغ وينحدرون كلهم من مناطق وقبائل معروفة ومحترمة، ولكن للأسف يترأسون أحزاب غير أمازيغية، بل بعضها يتبنى ايديولوجيا مضادة ومناهضة للامازيغية وتعمل على نشر وتدعيم ثقافة ولغات أخرى وسياسات عمومية تتسبب في انمحاء الامازيغية والقضاء عليها داخل مؤسسات الدولة، لغة وثقافة وحضارة …

أكثر من هذا، فيكاد يحصل شبه إجماع زائف حول الامازيغية باعتبارها شأنا ثقافيا لغويا وصرفا،، وللأسف حتى بعض الفاعلين في حقل الامازيغية ينخرطون في تسويق هذا الخطاب ويسعون إلى تطعيم هذا الإجماع وتدعيمه وكسبه شروط القوة. لكن ذلك يخالف التاريخ والواقع ومنطق الأشياء وحقيقتها. فالأمازيغية قضية سياسية ومعالجة مشاكلها وحلحلة أسئلتها الحارقة يفرض مداخل سياسية ويستوجب إرادة سياسية قوية.
لنعود مثلا إلى سياق تأسيس الحركة الشعبية، فبعد اعتقال عدي أوبيهي العامل المتمرد تم نشر منشور في أكتوبر سنة 1957 يدعو إلى تأسيس الحركة الشعبية، المنشور وقع باسم مستعار وهو حدو الريفي. ولم يتم الاعتراف بالحزب إلا بعد قمع وسحق انتفاضة الريف في فبراير 1959، ولم يخف المحجوب أحرضان منذ البداية، تبني الحركة الشعبية للهوية الامازيغية وتحقيق مطالب ثقافية ولغوية والدفاع عن الأمازيغ…الخ، وهذا الحزب كما يعرف الجميع كان لقي تشجيعا من القصر في محاولته للحفاظ على التوازن السياسي والحزبي والعمل على صد وتحجيم قوة حزب الاستقلال الذي كان مهيمنا على السياسة والإدارة ….
ويتضح بكل جلاء أن الامازيغية تطرح نفسها كقضية سياسية في جميع اللحظات السياسية الكبرى في تاريخ المغرب، لا نريد الغوص كثيرا في التاريخ ونتحدث عن تجارب وأحداث كانت فيها الامازيغية تطفو إلى سطح الأحداث السياسية والمنعطفات الكبرى، كاستقلال المغرب عن المشرق والخلافة منذ القرن 8م، عن طريق تأسيس دول وامارات سياسية معتنقة مذهب الخوارج بقيادة زعماء أمازيغ طرحوا الخصوصية الامازيغية المغربية وقادوا بها ثوراتهم كالرستميين وبنو افرن ودولة غمارة وبورغواطة وغيرهم…وحتى إبن خلدون فقد طور نظرياته من خلال علاقة الامازيغ بالدولة والسياسة، وذلك في أطار ما عرف بالعصبية في فكر ابن خلدون. والتاريخ المغربي كله تاريخ صراع وتجاذب بين المخزن والامازيغ(البربر) حول المجال والنفوذ والثروات والموارد والشرعية. فالقبائل الأمازيغية هي التي كانت تملك حق تغيير السلطان، وهي التي كانت تقوم بتزعم حركات سياسية بديلة. ( أنظر واقعة بيعة اهل سوس لمحمد العالم إبن السلطان مولاي اسماعيل).

إلا أن القرن العشرين الذي نزلت فيه الحماية/الاستعمار إلى بلدان الامازيغ، والمغرب واحد منها، يعتبر لحظة حاسمة في تاريخهم، حيث فقد الامازيغ شخصيتهم ومؤسساتهم وبنياتهم وقوانينهم، وهي المؤسسات التي يتداولون بها أمورهم وقضاياهم وتدبير شؤون حياتهم من استغلال الأرض وتسيير المجتمع بكل تنظيماته، وحين جاءت الدولة الوطنية قضت على كل شيئ له علاقة بالامازيغية باعتناقها ايديولوجية العروبة، أكثر من ذلك جعل الذين سيطروا على الدولة الحديثة التي كان من المفروض عليها الاهتمام بالثقافات واللغات الوطنية والعناية بها، جعلوا من الامازيغية في خانة الخيانة والاستعمار، وأسسوا أحزابا ونقابات كثيرة جدا على مرتكزات العروبة والقومية العربية البعثية، لإقبار الامازيغية والخصوصيات المحلية باعتبارها رمزا من رموز النظام القديم والرجعية والاقطاعية، وطالبوا بالتعريب الشامل والقضاء على الامازيغية لأنها تهدد الوحدة الوطنية( أنظر كتابات علال الفاسي والمهدي بن بركة…).

الحقيقة أن تهميش الامازيغية ومحاربتها هو الذي يشكل خطرا على الدولة والوحدة الوطنية، لأنها بكل بساطة هي هوية المغرب، هي لغة الوطن وثقافة الشعب، مهما حاولت أحزاب العروبة واليسار والإسلاميين ومعهم الدولة، مهما فعلوا لاقبار الامازيغية وتحييدها من السياسة والفضاء العمومي، فإنهم سيفشلون فشلا ذريعا. لا تهم كل هذه القفعات السياسية التي تتناطح في الهواء، تصعد وتنزل في كل مرة وحين، وفي الأخير تتلاشى أمام صخرة الواقع.

كل مرة، يحاولون فبركة الايديولوجيات والأفكار الدينية والسياسية فإنها لن تصمد أمام هوية الأرض أمام صمود الامازيغية، فكما صمدت ضد القومية العربية والاشتراكية البعثية والوهابية المنغلقة فإنها ستستمر في المقاومة والصمود، مقاومة عقلانية وسلمية بالفكر والإبداع…هذه كلها معارك سياسية قادتها الامازيغية ونجحت فيها نجاحا باهرا بدون أي دعم ولا قوة ولا مال ولا سلطة، الامازيغية في المغرب وفي كل دول تامزغا تقود معارك خارج مؤسسات الدولة ولكنها تنبعث وسط المجتمع، وتبين للجميع أنها مصدر قوة ومصدر الوحدة، بالرغم من الحملة الشنيعة التي يشنها الخصوم باعتبارها بواعث الانفصال والتفرقة…

حاليا جميع الأحزاب في المغرب سواء في الأغلبية والمعارضة كلها تتبنى ايديلوجيات وأفكار ومذاهب سياسية لا تخدم مصالح الامازيغية( إن كانت لها أفكار ومذاهب)، ولا تنسجم مع الهوية المغربية وثقافتها، ولا يهتمون بصيانة وإنقاذ الامازيغية ومن الانقراض …وكلهم جميعا يرفضون تأسيس أحزاب امازيغية ، ويمنحون لأنفسهم حق تهميشها وحق استغلالها متى يشائون وبالطريقة التي يشائون دون العمل على تثمينها وتقديرها والحفاظ عليها حتى وهي لغة رسمية، وقد سجنوا القانون التنظيمي لتتفعيل ترسيمها 8 سنوات وحين تداولوا بشأنه قالوا أنه سيتم تدريجها في أفق 20 سنة يعني 28 سنة…
كل هذا يمكن فهمه، لكن ما لا يفهم إلى حد الآن نكوص الأمازيغ الذين يملئون أكياس الآخرين بزرعهم.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments