معادير تزنيت: لماذا تتجدد مشاكل الرعي بنفس المنطقة؟
خرجت ساكنة المعدر مقورن يوم الأحد الماضي في مسيرة احتجاجية سلمية، للدفاع عن أملاكهم أمام هجومات بعض الرعاة الرحل واستفزازاتهم وبعض سلوكاتهم المشينة والعنيفة في حق الساكنة المحلية. مما جعل السلطات وأجهزة الدرك والادارة لإعطاء مهلة للرحل لمغادرة أملاك القبيلة واستعادة الهدوء والطمأنينة للساكنة.
لذلك وجب التأكيد مرة أخرى على ضرورة فهم هذه الظاهرة في شموليتها وامتداداتها الخطيرة في المستقبل. وقد كشفت هذه المسيرة الشعبية غير المسبوقة عن فشل الدولة في مقاربتها التشريعية والإدارية والسياسية لهذه الظاهرة المعقدة، وهي المقاربة التي تتحمل فيها وزارة الفلاحة والصيد البحري والمياه والغابات والتنمية القروية المسؤولية التامة منذ اصدار قانون 113/13 لما فيه من بنود وقضايا تنم عن جهل المشرع لظاهرة الرعي والترحال وتنظيم المراعي حسب فصول السنة، وهي قضايا تم تدبيرها من قبل المجتمع الأمازيغي منذ قرون لما قبل الميلاد، وانتج العقل الامازيغي منظومة قانونية غزيرة غاية في الإبداع والعبقرية والذكاء الجماعي التي تم افرازها من عمق منظومة ايكولوجية أمازيغية تتأسس على مبادئ وقيم اهمها، الحفاظ على الموارد الطبيعية والبيئية وضمان استمراريتها واستدامة الموارد الرعوية بما يوازي الحفاظ على الثروة الحيوانية دون إلحاق اي شكل من أشكال التدهور والاستنزاف للموارد وخاصة الماء والكلأ والمرعى والأشجار ومنها أرگان في سوس.
وقد سألت يوما في ندوة سابقة، المدير الوطني للمراعي بوزارة الفلاحة، وهو مهندس فلاحي، قلت له كيف لكم أن تقوموا بسن قوانين حول الرعي والترحال الرعوي، وانتم لستم رعاة؟ ونبهته أن القوانين الامازيغية لتنظيم الرعي والترحال والانتجاع بين العالية والسافلة التي تسمونها أعراف، استمرت وأثبتت نجاعتها وحيويتها لمدة قرورن، لسبب بسيط لأن الذين وضعوها هم رعاة ورحل، ووصلوا الى سن تلك القوانين بعد ممارسة طويلة وبعد وجود حاجة اجتماعية وضرورة اقتصادية مع توفر اهم شرط في التشريع هو الحرية ونبالة الأهداف المتوخاة من وضع القانون. فعلا المهندس الذي كان يدافع عن قانون الرعي وتنظيم الترحال الرعوي، لا يمتلك العدة المعرفية والانثروبولوجية والسوسيولوجية والتاريخية لظاهرة الرعي والترحال في المغرب، لأنه اكتفى بالقول أنهم قاموا بزيارة ميدانية الى بعض المناطق واطلعوا على بعض المراجع التي تتحدث عن اگدال وغيرها من القوانين…
لنعود إلى مسيرة ساكنة المعدر مقورن، ولابد أن نوضح بعض الأشياء المرتبطة بهذا الحدث، أولا المعدر يطلقه الامازيغ على بعض المناطق المنبسطة التي تتوقف فيها المياه بعد تهاطل الأمطار، وتتحول بعد ذلك إلى مراعي في فصل الربيع. بما أنه يسمى بالمعدر مقورن، فهذا يعني وجود معدر آخر مزين، أي صغير، لذلك، نجد في بعض المصادر التاريخية معادير، وهي كلمة على ما يبدو ليست عربية، وهي على شكل كلمة المرس التي تعني المنطقة التي توجد بها مطمورات لتخزين الحبوب بعد عملية الحصد والدرس وتكون عادة قريبة من الحقول البرية التي تحرثها القبائل الجبلية التي تملك أملاك في السهل او ازاغار، ومنها كلمة مرس السلطان.
تاريخيا لا نجد تسمية المعدر في مصادر العصور الوسطى، ولا توجد في ديوان قبائل سوس ولا في نزلات السلطان احمد المنصور الذهبي الذي وصل إلى تانگرفا بايت باعمران وتاگاوست بواد نون حاليا. ولذلك يمكن أن نستشف من ذلك أن المنطقة كانت جزءا من بلاد لمطة اذا أخذنا بما جاء عند ابن حوقل الذي اعتبر ان مجال قبيلة لمطة الأمازيغية يبدأ من مدينة ماست. وبذلك فمعادير اليوم كانت مراعي ومراتع لمطة وبالقرب منها دفن سيدي وگاگ اللمطي مؤسس دولة المرابطين بناحية أگلو. وبالملاحظة السريعة في منطقة المعدر واحوازها، يتبين انها كانت محطة مهمة من محطات قوافل المرابطون سابقا الذين كانوا ينتقلون بين اوداغست وتارودانت ثم اغمات، ثم بعد ذلك قوافل التوارگ بين تنبكتو وتاصورت لاحقا.
في هذه الفترة يعني العصور الحديثة، بعد تأسيس مملكة تازروالت بقيادة الأمير ابي حسون السملالي، بزغ دور المعدر وتحول من منطقة المرعى ومنطقة العبور إلى منطقة الاستقرار والعمران، فالمعدر كان تحت سلطة أمراء تازروالت الذي أمر باعمار المنطقة لتحصينها من الرعاة القادمين من الجنوب، والاستفادة منها اقتصاديا بكراء المراعي للرعاة واستخلاص الاتاوات منهم مقابل السماح لهم بالرعي كما هو شأن القوافل التجارية حيث يؤدون التجار حقوق المرور للقبائل وزعمائها، ومن بينهم أمراء إليغ التي كانت عاصمة تجارية دولية. بمعنى أن الرعي وتنظيم الترحال بأحواز تزنيت ليس وليد الدولة الوطنية الحديثة وليس وليد مهندسي وزارة الفلاحة. فالرعي في مناطق سوس هو قضية تاريخية معقدة جدا. فالذين خرجوا للاحتجاج يوم الأحد الماضي فهم ليسوا سكان عاديون، فهم من سلالة ايداوسملال، وإليهم ينتمي القطب الصوفي الكبير مؤسس الطريقة الدرقاوية سيدي سعيد اهمو، ومنهم قامات صوفية أخرى تنتمي إلى الطريقة الناصرية، وأرضهم تعتبر أهم محور من رحلة ايداولتيت الصوفية والمقدسة.
اليوم الحكومة تريد تدبيرها بطريقة مختزلة بمنطق إداري بيروقراطي لا يسار المقاربة التشاركية التي تتبجح بها الدولة فقط في الواجهة لتنفيذ سياستها وشرعنة قوانينها الفوقية.
مجمل القول، فمشاكل الرعاة اليوم، وما يقترفونه بعض الرعاة في مراعي سوس، يحتاج إلى جرأة سياسية ونقاش سياسي، لأنه لم يعد اليوم نقاشا مرتبطا بين الساكنة والرحل وإنما يسائل الفاعل والقرار الحكومي في شخص وزاة الفلاحة وترسانتها الإدارية والقانونية، التي صرفت ملايير الدراهم وميزانيات ضخمة من أجل تنظيم الرعي والترحال، إلا أن ذلك لم يعط حلولا ناجعة ولم يضع حدا لتعسفات بعض الرحل والاصطدامات مع الساكنة المحلية المغلوبة على أمرها.
يتبادر إلى الذهن سؤال مركزي، لماذا نفس المناطق في جبال الاطلس الصغير وسهول سوس هي التي تتعرض دائما لنفس السلوكات والاستفزازات من طرف بعض الرحل القادمين من الجنوب والذين يملكون قطعان كبيرة العدد من الماشية؟ السنة الماضية عشنا اصطدامات ومواجهات في قبيلة السيحل، وايت باعمران والسنة الماضية في مناطق أشتوكن وايرسموگن، وهذه السنة في المعدر ولا نعلم ماذا سيقع في الأيام المقبلة… هذه المناطق التي تتعرض لهذا التعسف الرعوي هي المناطق المحسوبة تحديدا على قبائل لمطة وجزولة، وهو المجال الذي كان تابعا لامارة تازروالت، والمنطقة التي انطلقت منها آخر تجربة سياسية لتوحيد المغرب بقيادة قبائل جزولة بزعامة احمد الهيبة وفقهاء سوس سنة 1912، وهي المنطقة المحسوبة اليوم على المحيط الحيوي لمدينة تزنيت.. ولا نعرف هل ذلك له علاقة بقرار وزارة الفلاحة التي اعتبرت من مدينة تزنيت عاصمة للمراعي، وما هي اسباب هذا الاختيار مع وجود مناطق رعوية أكثر شساعة وخصبة في مناطق أخرى بالمغرب من احواز تزنيت.
ولكم الآن أن تسألوا كيف تحولت مراعي المعدر من مراعي أمراء تازروالت إلى مراعي تم تسييجها بدعم من أمراء قطر.
ما يقع في احواز تزنيت كل سنة ليس صدفة.
مناضل أمازيغي وإعلامي وكاتب وباحث في التاريخ