شمعة صاحب “أفافا ئنوفا” تنطفئ إلى الأبد


يشاء القدر مرة أخرى أن تخطف يد المنون أحد رواد الموسيقى الأمازيغية، والذي عرف كيف يأسر القلوب الرقيقة المحبّة للفن الراقي، ويوصل ما تختزنه ذاكرة أمازيغ شمال إفريقيا من أمال وآلام في قالب إبداعي لا يقاوم، إيصاله إلى العالمية، رائد النضال الهادئ والعميق الذي تسلح عقودا طويلة بقيثارته وكلمته الهادفة. يتعلق الأمر بشخصية فذة رحلت عنا في صمت، بعد تاريخ حافل بالإنجازات والتحديات، إنه المغني العالمي إيدير.

رحل عنا الفنان المبدع مساء يوم السبت 03 ماي 2020، رحل عنا جسده بينما ستظل تسكننا روحه، كيف لا وهو الذي هذّب ذوقنا الفني منذ الطفولة المبكرة، وعلّمنا أن الموسيقى تتأسس على الإيقاع الذي يأسر الإحساس، وأنها قد تنطق ولو استغنت عن الكلمة الملفوظة.

يعتبر إدير من خيرة من أنجبه رحم منطقة القبائل الجزائرية، إيدير الذي زاوج بين البحث العلمي في الجيولوجيا وإمتاع الناس، في مشارق الأرض والمغرب، بإيقاعات فريدة بصمت على ألبوم الموسيقى العالمية بقوة خصوصا أنها كانت فوق كل تصنيف ضيق، كل ذلك قبل أن يتغلب شغفه بالموسيقى على التكوين العلمي في الجيولوجيا.

ولد حميد شريت الذي يعرفه العالم باسم إيدير بآيت لحسين بأعالي جرجرة سنة 1949 بقرية نائية في أعالي جبال جرجرة، وترعرع في أسرة بسيطة حيث اشتغل أبوه راعي غنم، في بيئة أمازيغية أصيلة ألهمته في كثير من أعماله الفنية خصوصا أن جدته وأمه كانتا تنظمان الشعر الأمازيغي.

أحب إيدير القيثارة ولم يكن الحب من جانب واحد، بل عشقت القيثارة أيضا أنامل إيدير منذ نعومة أظافره، فقد طاوعت فضوله وواكبت طموحه منذ أن كان في المدرسة الابتدائية، هذا الحب لم يكن حجرة عثرة أمام مسيرة إيدير التعليمية، ويعود فضل التوفيق بينهما إلى التوجيه والتشجيع من جانب أطراف عديدة، ولو أن الراحل طالما أثنى على أستاذ العلوم الطبيعية الذي كان له الفضل الكبير في نسج العلاقة بين إيدير وقيثارته.

كان لنشأة إيدير في بيئة أمازيغية وداخل أسرة مبدعة أثر كبير في علاقته بالفن، فقد استزاد مبكرا من التراث الأمازيغي الغني بأجناسه الأدبية المتنوعة، والذي كان عينا نضاخة تجود بالكلمة الرقيقة والحكمة العميقة وهو ما اعتبره إيدير مرجعيته الفنية.

داعب إيدير أوتار القيثارة منذ طفولته المبكرة، لكن صيته ذاع وبدأ يشق طريق الاحتراف منذ سنة 1973، بداية جاءت بالصدفة عندما نجح صوته في لفت الانتباه وأسر الأذن الموسيقية، لمّا عوّض أحد الفنانين بعدما ألمّ به المرض في أداء أغنية للأطفال على أمواج الإذاعة.

رائعة (baba inuba) التي عرفنا بها إيدير منذ طفولتنا والتي تحمل جواز العالمية بامتياز أعقبت أداءه للخدمة العسكرية، هذه القطعة التي نالت إعجاب كل من سمعها وحرّكت القلوب بإيقاعها الخالد، وهي القطعة التي زيّنت أستوديو القناة الأمازيغية بالجزائر العاصمة. رصيد إيدير الفني ومصداقيته الإبداعية تقوّت بعد صدور ألبومه الثاني (a arrac nnɣ) الذي كتب كلماته سنة 1979، ألبوم أعطى دفعة قوية للمسيرة الفنية للراحل.

أعاد إيدير تسجيل 17 أغنية من الألبومين الأولين سنة 1991 بعد أن توارى عن الاستديو طيلة عقد من الزمن، وشارك في عدة تظاهرات كبرى يتقدّمها الحفل الذي احتضنته عاصمة الأنوار سنة 1992، وهو الرجوع الذي مكّن أسلوب إيدير الفني من ولوج بوابة الموسيقى العالمية

سنة بعد ذلك، صعد إيدير منصة قاعة الأوليمبيا الشهيرة لمدة ثلاثة أيام على التوالي في إنجاز فريد خاصة بعد انخرط في فرقة بلو سيلفيري في رسم لوحات توظف إيقاعات موسيقية تتضمن القيثارة والناي والأورغ ويظفر مزيدا من النجومية والعالمية.

إيدير أكبر من يصنف، فهو ينتصر للكلمة الرقيقة والإيقاع الآسر، خاض في تيمات كثيرة لعل أهمها الذاكرة الجماعية، القيم الإنسانية، الهوية والأرض، تيمات تستأثر باهتمام وتفاعل المتلقي وتعاطفه.

فلترقد روحك في سلام أيها المبدع الفريد، أسكنك الله فسيح الجنان، صحيح أن رحيلك فاجعة وخسارة لنا، لكن الموت تظل قدرا محتوما، ويكفيك شرفا أنك محبوب الملايين عبر العالم، أحبوا فيك صدق الرسالة ورقّة الكلمة وأسر الإيقاع.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments