إسلام السوق أو النيوليبرالية الملتحية


“إسلام السوق المتحول إلى فضائل السوق والشأن الخاص وإلى قضية الحد الأدنى من الدولة، يظهر الآن بوصفه الشريك المثالي للأمريكيين ليس فقط في سياستهم الشرق أوسطية، ولكن أيضا في صراع الحداثة التي تواجهها أمريكا مع عصر الأنوار الأوروبية”

يقولون وختامه مسك، بمسك الفقرة أعلاه ختم الباحث “باتريك هايني” كتابه المثير للجدل “إسلام السوق”. في هذا الكتاب تناول “باتريك هايني” ظاهرة الإسلام المُبَرجَز والمُلَبرَل الذي خرج من قبعة الإسلام السياسي كما تخرج الأرانب من قبعة الساحر. غير أن ذاك الخروج وإن كان اختيارا تكتيكيا لدى بعض قيادات تنظيمات الإسلام السياسي، بشقيه الرئيسيين الإخواني والسلفي، فإنه أصبح نهجا استراتيجيا لدى أغلب نخب وقواعد تلك التنظيمات. لقد مضى زمن كان فيه شعار “الإسلام هو الحل” يسحر العقول والأفئدة، وآن أوان “لاهوت النجاح”.

لقد صدر كتاب “باتريك هايني” في طبعته الفرنسية الأولى سنة 2005، وبقي مثار جدل في صفوف حركات الإسلام السياسي حتى وصلت بعض تنظيماتها إلى الحكم سنة 2011 ممتطية صهوة “الربيع الديموقراطي” في بعض دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط. مع بداية تجربة الإسلاميين في الحكم ازداد الاهتمام بالكتاب سواء من طرف المتعاطفين مع التجربة أو المناوئين لها. وقد كان للكتاب ومازال الصدى الكبير عند المهتمين بإسلام السوق المغربي، خصوصا وأن كاتبه خص التجربة المغربية بما يليق بها من الاهتمام.

يعتبر “باتريك هايني” إسلام السوق بالمغرب حالة نموذجية – un cas d’école – من بين حالات أخرى تطرق إليها في كتابه، خصوصا المصرية والتركية. بالنسبة لهايني تندرج السياسة الإسلامية الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية ضمن “حرب الأفكار”، للتأثير ليس فقط على المجتمعات المسلمة ولكن على الإسلام نفسه من خلال دعم الإسلام السياسي النيوليبرالي، كما أن تلك السياسة جزء من استراتيجية التمكين للنموذج النيوليبرالي وتوأمه الرأسمالية المتوحشة في العالم الإسلامي، مغلفان بما يلزم من التدين المشَذب والمعالج وفق معايير “المنجمنت” –le management – على الطريقة الأمريكية. لذلك تقدم الولايات المتحدة الأمريكية كل الدعم اللازم لتنظيمات الإسلام السياسي النيوليبرالي ومن بينها المغربية.

بالنسبة لباتريك هايني، وجد “العم سام” في الإسلام السياسي أكثر من مجرد تحالفات تكتيكية أو ظرفية، لذلك تتحرك الدبلوماسية الأمريكية لحماية حلفائها الإسلاميين كلما اقتضت الظروف ذلك. فقد تدخلت سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية لمنع حل حزب العدالة والتنمية المغربي عشية الاعتداءات الإرهابية يوم 16 ماي 2003 بالدار البيضاء، يقول صاحب “إسلام السوق”، كما أن خَلَفَ السفيرة “ماركريت توتويلور” تَدخل سنوات قليلة بعد ذلك لفرض تأجيل محاكمة السيدة نادية ياسين، كريمة المرحوم عبد السلام ياسين المرشد العام لجماعة العدل والإحسان قيد حياته، بعد أن اعتبرت النظام الملكي غير مناسب للمغرب، خلال مداخلة لها بجامعة بيركلي الأمريكية.

لا يقتصر الدعم الأمريكي لتنظيمات إسلام السوق المغربي على ما هو ديبلوماسي، بل يكتسي تكوين أطر تلك التنظيمات أهمية كبرى لدى صانعي القرار في واشنطن، ديموقراطيون كانوا أو جمهوريون، فدعم إسلام السوق ثابت استراتيجي في السياسة الأمريكية. والمتتبعون للشأن السياسي بالمغرب يعرفون أسماء الوزراء الإسلاميين الذين استفادوا سابقا من دورات التأطير والتدريب في إطار البرنامج الأمريكي الاستراتيجي الشامل ذي الصلة. كما أن أمريكا تواكب الأداء السياسي والتنظيمي لإسلام السوق بالمغرب عبر العديد من المراكز والمعاهد كما هو الشأن بالنسبة لمعهد “كارنيغي” للشرق الأوسط الذي أسس من أجل تقديم وجهات نظر تحليلية وفهم مقارن واسع لكيفية حدوث التحولات السياسية وخبرة إقليمية عميقة للتأثير في مسألة التطور السياسي.

مقابل الدعم الأمريكي، التزمت تنظيمات إسلام السوق بالمغرب، كل من موقعه وحسب إمكانياته، على الاشتغال تحت سقف الأجندة السياسية والاقتصادية الأمريكية بالمنطقة، وتوخيا للإيجاز سنقتصر على حالة حزب العدالة والتنمية. فقد تخلى هذا الحزب عن الشعار المحوري الكلاسيكي “القرآن دستورنا والإسلام هو الحل”، كما نزع القداسة عن علاقة المنخرط بالتنظيم، فالالتزام التنظيمي سبيل من أراد بحبوحة الدنيا والمناصب، ولم يعد لبحبوحة الجنة علاقة بالأمور التنظيمية. كما أن المطلع على البرنامج الانتخابي الأخير لحزب العدالة والتنمية سيكتشف بأنه ورغم الكثير من البهارات الإنشائية، فإن الأهداف الاستراتيجية الخمس ليست سوى النسخة المغربية للتوصيات النيوليبرالية لإجماع واشنطن – Washington Consensus- الذي تبناه كل من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وتدعمه الإدارة الأمريكية منذ ثلاثة عقود.

فالمرجعية الدينية لحزب العدالة والتنمية تتفاعل بشكل إيجابي مع الأسس الفلسفية للسوق، والنزعة الفردانية، وتقليص أدوار الدولة إلى الحد الأقصى الممكن، كما تتفاعل إيجابا مع تشجيع القطاع الخاص وشبكات الإحسان المدنية. وكلها ثوابت في أيديولوجية المحافظين النيوليبراليين بأمريكا. يقول “باتريك هايني”: “إن إسلام السوق يميل تدريجيا وعبر مفارقة غريبة لكنها قوية في اتجاه أمريكا المحافظة”. كما تتقاطع الأجندة الأخلاقية عند تنظيمات “إسلام السوق” في الكثير من القضايا مع مثيلتها لدى المحافظين بأمريكا، خصوصا تلك المرتبطة بالحقوق الفردية كالإجهاض والمثلية.

ختاما، يمكن القول إن تغول “إسلام السوق” بالمغرب أكثر مما هو عليه الآن، أمر وارد جدا، فارتباطاته بالأجندة الأمريكية يعطيه مظلة سياسية ثمينة، وأجندته الأخلاقية تعطيه امتيازا على خصومه في المغرب المحافظ، وتوفره على شبكة من التنظيمات الإحسانية يضمن له قاعدة مستقرة من الزبناء. في المقابل، يمكن القول إن تراجعه محتمل أيضا، إذا استطاع خصومه بناء أدوات تنظيمية في مستوى التحدي وبلورة بدائل مجتمعية تحترم ذكاء المغاربة وتستجيب لطموحاتهم.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments