العقل السياسي الأمازيغي المعاصر: الحسين آيت حماد و أحمد الدغرني


شخصيتان سياسيتان أمازيغيتان، بصمتا على تاريخ سياسي حافل بالأحداث والأمجاد، وساهم كل واحد منهما عبر سياقات مختلفة في وضع لبنات أساسية وصريحة لفكر سياسي أمازيغي معاصر، حداثي ومتنور، متجدد ومنسجم مع العمق الثقافي والحضاري للبيئة التي نشأ فيها وأينع(الفِكر)، وتناغم مع التربة التي أنبتته نباتا طيبا، فِكرٌ سياسيٌ مبني على فلسفة وجودية نابعة من مرجعية ثقافية موغلة في القدم والتاريخ، وفي الآن نفسه؛ فكر منفتحٌ على عالمٍ متوسطي متسم بقوة التحرك في اتجاه حتمية التحديث ومنخرط في فضاء الحداثة. إنه فكر ناتج عن عقل مناهض للفكر السياسي السائد؛ القائم والمسيطر على النسق السياسي والحزبي ببلدان شمال افريقيا، نسق منغلق مبني على الاقصاء والتزمت الفكري والاضطهاد السياسي، شعاره “العروبة والسلفية والإسلاموية”.

سنقوم في هذه الاطلالة السريعة، باختصار شديد؛ على التعريف ببعض معالم وملامح الفكر السياسي الأمازيغي الذي وضعه المرحوم “الحسين آيت حماد”، المعروف ب “دَّا الحُسينْ” في الجزائر، ثم بالصرح الفكري والسياسي الذي بناه الأستاذ “أحمد الدغرني” والمعروف حاليا في أوساط الامازيغ بالمغرب ب “دَّا حْمَاد”.

ازداد الحسين آيت حماد في قرية عين الحمام بناحية تيزي وزو بمنطقة القبايل بالجزائر، سنة 1926، درس بتيزي وزو وبمدينة الجزائر العاصمة، ثم تخصص في القانون بسويسرا حيث ناقش رسالة الدكترواه في موضوع:
L’AFRO-FASCISME, Les droits de l’homme de la charte et la pratique de l’OUA.

يعتبر من بين أهم الشخصيات السياسية والوطنية في الجزائر، اقتحم عالم السياسية وهو في سن لا يتجاوز 16 سنة حين كان يدرس بالعاصمة، وانضم إلى حزب الشعب الجزائري للدفاع عن حرية الجزائر والنضال من أجل استقلاله من تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي. وصادف انخراط الشاب “الحسين آيت حماد” المفعم بالحماس والنضال والثورة، في حزب الشعب الجزائري، بانفجار داخلي وسط هذا الحزب، بين تيار أمازيغي وتيار عروبي متشبع بالقومية العربية والسلفية، وذلك منذ سنة 1945 حيث ظهرت اختلافات بينة وصارخة وسط قيادات الحزب، خاصة حين تم الحديث عن هوية الجزائر باعتبارها عربية إسلامية، ثم قرار الحزب بجمع التبرعات لفلسطين. وانفجرت هذه الازمة داخل الحزب سنة 1948 و1949، المعروفة في الأدبيات السياسية الجزائرية ب “الأزمة الامازيغية”، والتي انطلقت فعليا بقرار عزل فيدرالية الحزب بفرنسا في ابريل 1949 وعزل “رشيد علي يحي” أحد زعماء التيار الأمازيغي، من رئاسة تحرير جريدة “النجم الجزائري” الذي اتهمه التيار العروبي داخل حزب الشعب الجزائري بمحاربة فكرة عروبة الجزائر واستعمال الجريدة في نشر أفكار امازيغية، كما قررت نفس القيادة ابعاد وعزل القادة الأمازيغ الذين ينتمون في الغالب إلى منطقة القبايل من اللجنة المركزية للحزب.

“الحسين آيت حماد” ولج عالم النضال والسياسة في هذه الأجواء المشحونة، والتي أرغمت على القادة الامازيغ أن يعيشوا “الاضطهاد المزدوج” من قبل الاستعمار الفرنسي ومن قبل رفاقهم الجزائريين الذين طردوهم من الحزب. وبالرغم من بقاء الحسين آيت حماد داخل الحزب وداخل حركة انتصار الحريات الديموقرطية، إلا أنه لم يسلم من دسائس رفاقه، حيث سرعان ما أزاحه تيار العروبة من رئاسة منظمة خاصة تابعة للحزب وتم تعيين “أحمد بن بلة” مكانه، بالرغم من أن آيت حماد قدم تقريرا دقيقا للحزب، طالب من خلاله بحمل السلاح والقيام بثورة مسلحة ضد فرنسا سنة 1949. ولم تظهر الأسباب الحقيقية وراء إزاحة آيت حماد من رئاسة تلك المنظمة الخاصة السرية، ولكن أغلب الباحثين يرجحون أن سبب ذلك راجع بالأساس إلى عقاب قادة العروبة داخل الحزب لآيت حماد لأنه لم يهاجم زعماء الحركة الامازيغية الذين تم عزلهم، وشككوا في انتمائه لأنه لزم الصمت تجاه رفاقه الأمازيغ، حيث كان دعاة العروبة وخاصة “مصالي الحاج” يعولون على آيت حماد لمواجهة الامازيغ داخل الحزب، واحتفظوا به داخل اللجنة المركزية بالحزب لكي يقوم بأدوار توجد فقط في أذهانهم حيث كانوا يرغبون في توظيفه ضد أصدقائه وأبناء منطقته في حرب بالوكالة، ولكن “آيت حماد” فطن لهم ولم يكن يفكر إلا في حرية الجزائر وفي الثورة ضد الاستعمار.
استمرار “الحسين آيت حماد” في النضال الثوري من اجل حرية وطنه، بالرغم من مكائد رفاقه واقصائهم للغة والثقافة الامازيغيتين، كان استمرار على نهج المبدأ والموقف الأخلاقي الذي حمله الزعيم الثوري والسياسي آيت حماد، فقد كان ملهما ومفجرا للثورة الجزائرية، وعانى كثيرا من العمل السري ومن قساوة المنفى والاعتقالات والاختطافات، أبرزها اختطافه جوا بمعية قادة آخرين في الطائرة سنة 1956، في رحلة جوية بين مدينة الرباط وتونس. وقد كان عضوا بارزا في المجلس الوطني للثورة الجزائرية وفي الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي تم اعلان تشكيلها في القاهرة سنة 1958. وخلال منفاه بالخارج قبل اعلان الاستقلال جال في المحافل الدولية خاصة داخل أروقة الامم المتحدة وناضل من داخلها لتأسيس قسم خاص بقضية حرية واستقلال الجزائر. واستطاع ان يكسب ثقة واحترام وتقدير رؤساء الدول العظمى، وفرض مواقفه كشخصية سياسية محترمة.

لكن بعد الاستقلال، انفجرت الجروح القديمة، وتجدد الغدر وبرز البغض من رفاق الأمس تجاه الزعيم الحسين آيت حماد، مما جعله ينسحب من جبهة التحرير الجزائري التي تحكم فيها تيار العروبة الذي يعادي الامازيغية والتعددية الثقافية في الجزائر. وذلك ما تجلى بوضوح في خطاب الرئيس الجزائري “أحمد بن بلة” سنة 1963 جاء فيه ” التعريب ضروري؛ ولا اشتراكية بدون تعريب، ولا مستقبل الجزائر بدون تعريب”.

وأسس حزبا جديدا اسمه “جبهة القوى الاشتراكية” في شتنبر 1963. وبسبب تسلط الرئيس “أحمد بن بلة” الذي كان يحمل حقدا دفينا تجاه آيت حماد، اتجه هذا الأخير إلى خيار اعلان الثورة ضده، وحمل السلاح والصعود إلى جبال القبايل، وكان معه زعيم آخر يسمى “محند أولحاج” بمعية آلاف من الثوار ضد نظام بن بلة، في انتفاضة تاريخية معروفة بانتفاضة القبايل، وبعد مواجهات تم اعتقال آيت حماد والحكم عليه بالاعدام، وذلك ما بين 1964 و1965. وبعد العفو عنه فر إلى سويسرا وعاش بها منفيا إلى غاية سنة 1989. عاد وفي نيته إعادة بناء الجزائر من جديد، جزائر حرة ومتعددة، شارك حزبه في الانتخابات سنة 1990 ثم في سنة 1991، التي فازت بها جبهة الانقاذ الإسلامية والتي قام الجيش بإلغاء نتائجها، ودخول البلاد موجة الحرب الاهلية والسياسية الرهيبة. وبعد اغتيال الرئيس محمد بوضياف سنة 1992، سرعان ما اكتشف الحسين آيت حمادأن النظام الجزائري يزداد استبدادا وتحجرا، ثم عاد مرة أخرى إلى منفاه في سويسرا، ونفس الشيئ حصل في سنة 1999 حين عاد وترشح للانتخابات الرئاسية، ثم انسحب منها بعد أن ظهر له التزوير وعدم انحياز الدولة والإدارة التي كانت تدعم بشكل مفضوح عبدالعزيز بوتفليقة. مواقف الحسين آيت حماد من النظام الجزائري منذ سنة 1963 لا تتبدل، فهو يرى أن النظام فاقد للشرعية السياسية.
توفي الزعيم السياسي الحسين آيت حماد في منفاه بسويسرا، سنة 2015 في عمر يناهز 89 سنة، قضاها كلها، في النضال والاعتقالات والمنفى، قبل الاستقلال وبعده، توفي وهو معارض صامد في الموقف والمبدأ. ودفن جثمانه بقريته بعين الحمام بجوار قبر والدته تنفيذا لوصيته.

ترك دا الحسين الكثير من المؤلفات، منها:

– Mémoires d’un combattant : L’esprit d’indépendance 1942-1952
– La guerre et l’apres-guerre 2004.
– L’affaire Mecili, 2007.
– Omerta sur l’Algérie, 2003.

أما الأستاذ احمد الدغرني فولد سنة 1948 بإحدى قرى ايت باعمران، مجموعة لمطة قديما، ودرس بزاوية تادارت حيث كان والده يدرس الطلبة والتلاميذ ويمارس القضاء في قبيلة ايت علي، ثم انتقل الى مدينة تيزنيت ثم تارودانت بالمعهد الإسلامي، وحصل على الباكالوريا في مدينة مراكش، وخلال كل رحلة علمية يخوضها الدغرني من بوادي سوس إلى مدن الشمال، يخوض معها رحلة فكرية ومغامرات سياسية، حيث انخرط بمدينة مراكش في صفوف الشبيبة العمالية، ومنها تعرف على الراحل “عبداالله إبراهيم” وحضر محاضرات سياسية كان يلقيها الزعيم السياسي الراحل امام الشباب، خاصة في موضوع العلاقة بين النقابة والحزب، التي تعلقت في ذاكرة الدغرني ورسمت له معالم سياسية في مستقبله وهو تلميذ في الثانوي، ومن خلال هذه الشبيبة تعرف على سياسيين كثر منهم الذين كانوا ينتمون إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كبوعبيد ..وآخرون. ثم انتقل الى مدينة فاس بمدرسة تكوين الاساتذة، ووقع له ما وقع لسلفه “المختار السوسي” حيث “بدل فكر بفكر”، (وهذه وقائع ومسارات مر منها جميع أبناء سوس). تخرج الدغرني في فاس أستاذا في اللغة العربية وآدابها، لكن لم يلج اقسام التدريس، حيث اجتذبه الانخراط المبكر في العمل السياسي إلى دراسة القانون بجامعة الرباط، وبعد حصوله على الاجازة بها ولج مهنة المحاماة. وفي أثناء دراسته بالرباط انخرط في نضالات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وانتخب قياديا في اجهزته المركزية، وتميزت هذه المرحلة بجرأة الأستاذ الدغرني بمعية رفاقه الطلبة الذين كانوا طليعة النضال الديموقراطي والسياسي بالمغرب ابان عقد السبعينيات الذي كان عقدا حارقا كتب تاريخه بالرصاص والدم والاعتقالات، نتيجة اصطدامات واضطرابات سياسية كثيرة وقعت بين الدولة والقوى السياسية المعارضة وكذلك التي وقعت بين الجيش والنظام. وقد اعتقل الأستاذ “احمد الدغرني” بمعية طلبة يساريين آخرين كانوا يتزعمون احتجاجات ويوزعون مناشير منددة بغطرسة النظام، وتعرض لتحقيقات كثيرة. انتمى الدغرني إلى تنظيمات يسارية معارضة التي كانت تهيمن على الأفكار السياسية في تلك الفترة، وكانت هي النسق الايديولوجي المُهيمن الذي يؤطر ويبلور جميع الحركات المعارضة السياسية للنظام، بفعل تنامي الفكر الشيوعي والاشتراكي في العالم خاصة في بلدان العالم الثالث التي خرجت للتو من أتانين حروب رفع الاستعمار.

مارس الأستاذ احمد الدغرني المحاماة بمنطقة الغرب بأحواز القنيطرة قبل أن ينتقل إلى الرباط، وكان دائم الحضور في المعارك السياسية والنضالية والحقوقية، خاصة في الدفاع عن معتقلي الرأي بالمحاكم وخارجها، واقترب إلى التنظيمات السياسية وخبر دهاليزها، ونسج شبكة العلاقات مع سياسيين وعسكريين وفاعلين اقتصاديين.

كان يتميز بخصال كثيرة، خاصة النباهة السياسية والدينامية النضالية وقوة التحليل والتفكيك. ساعده في ذلك تكوينه الأدبي ثم القانوني، فهو قبل أن يكون رجل سياسي وقانوني فهو كائن أدبي، فقد ألف مسرحيات تاريخية فريدة انفرد بها بين أقرانه، وقاده هذا الحس الأدبي إلى الاشتغال على التاريخ، وكتب مسرحية عن المهدي ابن تومرت مؤسس الإمبراطورية الموحدية، ثم مسرحية أخرى عن الملك الموحدي “عبدالمومن الگومي”، هذه العودة إلى التاريخ هي التي جعلت من الدغرني ينسل ويثور على الفكر القومي الذي شنقت به التنظيمات اليسارية المغربية أنفاسها وجعلت منها تنظيمات تعيش اختلالا بنيويا شوه منظومة وجودها وجعلتها القومية العربية المتزمتة التي تقدسها بمثابة تنظيمات تعيش بدون روح وادخلتها إلى متاهات معدومة الأفق. وحين ماتت وتلاشت القومية العربية في زمننا هذا أصبحت هذه التنظيمات اليسارية يتيمة الروح وفاقدة المعنى. ساعد سياق الثمانينات الذي عاشه المغرب، ثلة من المحامين الشباب لينسلخوا من النسق الايديولوجي العروبي الذي كبل تنظيمات الطلبة واليسار والأحزاب واصابها بالاختناق، سياق بدأ باعتقال المؤرخ العظيم “صدقي علي أزايكو” 1981 ومنع ندوة الجامعة الصيفية بمدينة أكادير. بدأ المحام “حسن اد بلقاسم” الذي كان معتقلا سياسيا ضمن صفوف اليسار، وتجرأ بإعلان امازيغيته وكان حدثا فارقا، وليس سهلا في تلك الفترة اعلان الامازيغية علانية خاصة داخل الاوساط المهنية والفكرية والصالونات الثقافية، ثم انبثق الوعي الثقافي الامازيغي والوعي السياسي خاصة بعد غطرسة الفكر القومي العربي الذي لم يتهاون في مهاجمة ومحاربة الامازيغية.

في هذا السياق انتفض الدغرني على التوجهات القومية المتزمتة داخل اتحاد كتاب المغرب، حيث واجهت قيادته المتشكلة من الكتاب والمثقفين كل اشكال التعدد الثقافي والتنوع اللغوي بالمغرب، واكثر من يهاجم الامازيغية في المغرب إلى اليوم، هم هؤلاء الذين يعتبرون انفسهم منتجي المعرفة وأصحاب الفكر والابداع، فهم يعادون الامازيغية بشراسة ويجهرون بدعوتهم حتى بعد دسترة الامازيغية في الدستور المغربي سنة 2011، وهم يدركون تمام الادراك أن الامازيغية تفكك لهم كل ما شيدوه من “سلطة معرفية ورمزية”، كما يحلل ذلك الفيلسوف “ميشيل فوكو” والسوسيولوجي “بيير بورديو”، فاللغة تمارس السلطة بكل أشكالها. ونهوض الامازيغية هو سلطة يعري منظومة سلطوية قائمة.

في سنة 1993 الأستاذ “احمد الدغرني” والأستاذ “الحسن اد بلقاسم” يحضران مؤتمر الامم المتحدة في العاصمة فيينا للترافع والدفاع عن الحقوق اللغوية والثقافية الامازيغية بالمغرب، كخطوة غير مسبوقة لوفد امازيغي مغربي يقتحم أروقة الامم المتحدة بملف امازيغي. بعده أسس الدغرني بمعية مناضلين وفاعلين جمعويين تنظيم “التنسيق الوطني الامازيغي”، وولى شؤون رئاسته بعد المرحوم “إبراهيم اخياط”، وقاد دينامية امازيغية فعالة وجدية في ربوع مناطق المغرب وانتقل بين المدن والمداشر وحاضر بالجامعات، في المغرب والخارج، وشارك في المؤتمر التأسيسي للمؤتمر العالمي الامازيغي، وكان ضمن لجنة مصغرة وضعت العَلَم – الراية- الامازيغي المعروف حاليا في كل مناطق العالم. ثم بعدها أسس نهاية التسعينيات جريدة تامزيغت كأول جريدة مستقلة في المغرب. واشتغل الدغرني بخلاف الفعاليات الامازيغية على قضية المشروع المجتمعي الامازيغي، كمشروع متكامل يبلور القضايا والمطالب الامازيغية في تجلياتها المتعددة والمتداخلة وفق برنامج سياسي واضح ودقيق، وقد فصل ذلك في أطروحته السياسية التي سماها سنة 2003 ب “البديل الامازيغي”. وقد اجتهد الدغرني كثيرا في بلورة مشروع سياسي امازيغي من الأسفل مستقلا عن السلطة لخلق التوازن خاصة بعد أن تدخلت الدولة في شأن الامازيغية سنة 2001 بتأسيس المعهد، في اطار ما سمي آنذاك بمأسسة الامازيغية. فهو يعتقد أن ذلك يخص الدولة، ولا يعني الشعب والمجتمع الذي يجب أن يشتغل ويبلور مشروعا سياسيا في قضية سياسية بامتياز. ومن هذه الزاوية اهتم الدغرني بقضية التنظيم، وقد قام بتأسيس حزب سياسي بمرجعية أمازيغية سنة 2005 بمعية مناضلين وفعاليات تنتمي للحركة الامازيغية. وانتخب أمغار الحزب في يوليوز سنة 2005. لكن الدولة في شخص وزارة الداخلية قامت بحله وفق دعوى قضائية رفعت ضده سنة 2007 وفي 2008 صدر الحكم القضائي بحل وبطلان الحزب الديموقراطي الامازيغي المغربي، واستمر الدغرني في المعارضة بمواقفه وتحركاته الميدانية وتحليلاته السياسية التي تنادي بضرورة إرساء العدالة والحرية والديموقراطية واستقلالية القرار الحزبي والسياسي عن السلطة ةالتقسيم العادل للثروات.

ألف الدغرني كتبا كثيرة تجاوزت 20 عنوان، في الآداب واللغة والسياسة والقانون والتنظيمات، وترأس جريدتين تامزيغت وأمزداي، وله المئات من المقالات السياسية والفكرية وعشرات من الحوارات الصحفية. من بينها مسرحيتين؛ الأولى عن عبدالمومن و الثانية حول شخصية المهدي ابن تومرت، ورواية “مدينة الفناء” و”دموع الغولة” قصص قصيرة، وكتاب عن “الانتخابات والأحزاب السياسية المغربية”، وكتاب آخر عن “الكتل المجتمعية”، و”الامازيغية والتعديلات الدستورية”، “الكونكريس العالمي الامازيغي”، وكتاب “البديل الامازيغي” وكتاب عن “حراك الريف” ومؤلفات أخرى…

لم يسبق للدغرني أن يتقلد أي مهمة رسمية، وهو الوحيد الذي تم استثنائه من المجلس الإداري للمعهد الملكي للثقافة الامازيغية سنة 2001، بالرغم من مكانته القيادية والمحورية في الحركة الامازيغية، وبالرغم من أنه شارك في المفاوضات بين القصر والامازيغ سنة 2001. وظل مناضلا ومثقفا سياسيا معارضا ومنتقدا للمخزن وللحكومات المتعاقبة على المغرب منذ سنة 1956 في قضايا كثيرة خاصة المتعلقة بالحريات والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومن بين السياسيين الدين دافعوا عن ضرورة إعادة توزيع الثروات والموارد بشكل عادل على الشعب المغربي، وله تصور خاص بالمعادن والموارد الغابوية والبحرية والمائية.

كيف يمكن لنا إذن مقاربة تجربة الحسين آيت حماد وتجربة الأستاذ احمد الدغرني؟
الاول يتميز بخوض تجربة النضال المسلح ضد الاستعمار وخاض مرحلة التحرير الوطني كقيادي وزعيم وطني، واختلف مع رفاقه في معركة التحرير دعاة العروبة والقوميين، منذ انفجار الأزمة السياسية الامازيغية داخل ما يسمى بحزب الشعب الجزائري سنة 1949، واستمر “آيت حماد” في النضال الوطني الحقيقي في جبهة التحرير الوطني، وفي بداية الاستقلال انفجر الصراع من جديد بين الامازيغ ودعاة العروبة بزعامة احمد بن بلة، وانشق ايت حماد من حزب جبهة التحرير وأسس حزبا آخر جديدا، حزب اشتراكي لا يقدس العروبة وإنما يحترم وينطلق من المرجعية الامازيغية، وهور رد صريح على “ابن بلة” الذي يقول أنه لا يمكن تصور “اشتراكية بدون عروبة”، وقد اتهم نظام ابن بلة انتفاضة الامازيغ بزعامة “الحسين ايت حماد” ورفاقه في منطقة القبايل باجبار المواطنين التكلم فقط بالامازيغية وعدم استعمال العربية. “آيت حماد” أعلن صراحة عن مواجهة غطرسة وتسلطية الرئيس “احمد بن بلة” بتمرد مسلح في جبال القبايل سنة 1963 كما أشرنا أعلاه، واعتبر أن عملية تحرير لم تتم لأن الاستقلال الجزائري سُرق، ويرى أن النظام الحالي في الجزائر فاقد للشرعية السياسية.

قضى “دا الحسين ايت حماد” 28 سنة في المنفى وحزبه ممنوع يشتغل في السرية الى حدود سنة 1988، وناضل الزعيم السياسي الامازيغي في المنفى على واجهات عديدة، من أجل نظام سياسي ديموقراطي عادل في الجزائر. فيما أن الأستاذ أحمد الدغرني هو ينتمي إلى الجيل الأول بعد الاستقلال أي أنه لم يخض معارك النضال مع ما يسمى بالمغرب ب”الحركة الوطنية”، ولكن اصطدم هو الآخر مع رفاق الأمس في النضالات الطلابية والشبابية وخاض معهم معارك سياسية في سبيل القضية الامازيغية وقضايا العروبة والايدولوجية القومية التي تسعى تذويب المغرب بحضارته العريقة وثقافته المتعددة في الشرق والعروبة. فالواحد يكمل الآخر، فكلاهما يلقب داخل وطنه ووسط انصارهما بنفس اللقب”دا الحسين” و”دا حماد”، الذي يفيد في الثقافة الامازيغية التقدير والاحترام.

الزعيمان السياسيان واجها الآثار المدمرة للايديولوجيات القومية داخل النسق السياسي المغاربي بمنظومة أفكار متماسكة ومتكاملة ومنسجمة مع التاريخ والمرجعية الثقافية لشمال افريقيا. فقد أسسا تجارب سياسية معارضة للأنظمة وللانساق الثقافية والفكرية المهيمنة على الفكر السياسي، فقد قام كل من دَا الحسين بالجزائر ودَا حماد بالمغرب، باستعادة حقوق العقل وفرض الاعتراف بها داخل بيئة سياسية منغلقة بفكر أحادي، وفرض التفكير الحر عن طريق زعزعة المسلمات الايديولوجية المستوردة.

واذا جاز لنا القول فأن الصراع السياسي الامازيغي كان يستهدف تحرير العقل من “الايديولوجيا العربية المعاصرة” فأكسب للعقل حقوقه ووظيفته التي تنطلق من الواقع والتاريخ والعلوم الانسانية بشكل عام.

العقل السياسي الامازيغي قام بتحرير العقل السياسي من المفارقات التي دبج بها المؤرخ “عبدالله العروي” كتابه “مفهوم العقل: مقالة في المفارقات”. فالعروي درس في كتابه حول العقل شخصية الشيخ المصري “محمد عبده”، ليبني عليه نظريته التي شرحها في الكتاب والتي تدور حول فكرة الإصلاح وهو كتاب انطلق من محاضرة شارك فيها العروي بدولة الامارات العربية. ولكنه كتاب لا يخرج عن المجهود النظري والفلسفي والنقدي للعروي الذي اشتغل عليه منذ عقود داخل منظومة فكرية وسياسية جمعها في كتابه “الايديولوجيا العربية المعاصرة” وفي كتابه “العرب والفكر التاريخي”. أما الجابري فقد حسم الأمر مبكرا وبشكل صريح في عنونة كتابه ب “نقد العقل العربي” لكنه رد عليه جورج طرابشي ب”نقد نقد العقل العربي”، في حرب فكرية وسياسية غير مجدية بين دعاة القومية العربية، حرب تظهر بجلاء أزمة العقل والضمير خاصة لدى مفكري شمال افريقيا.

ولم ينج منها المفكران المغربيان، العروي والجابري اللذان وقعا ضحية القومية العربية وضيعوا في سبيلها الكثير من الجهد الفكري والمعرفي، ليصطدموا في النهاية أنهم وقعوا ضحية شعارات سياسية كبرى واستنزفوا عقولهم في تطاحنات فكرية وفلسفية وسياسية سرعان ما سقطت عارية بجانب أسوار بغداد ودمشق والقاهرة بعد انهيار أنظمتها السياسية الشمولية القمعية. وفي الوقت الذي يتصارع فيه العروي والجابري حول قضية قراءة التراث ومسألة القطيعة، تفوق عليهم المفكر والمؤرخ الامازيغي “محمد أركون” الذي أرسى مدرسة علمية ودقيقة في العلوم الانسانية وخاصة التاريخ، في قراءة الفكر الإسلامي. لأنه لم يغرق في سرديات القومية والايديولوجيات الباردة، وإنما راح يدرس اللغات الأجنبية ويلهم مناهج الغربية في العلوم الانسانية وبلور نظريات معرفية في علم الاسلاميات التطبيقية، ساعده في إعادة قراءة التاريخ الإسلامي وفق منهج نقدي صارم.

لنعود إلى العقل السياسي، وإلى الحسين آيت حماد وأحمد الدغرني، ونجمل القول في الخلاصات التالية:
• من ميزات العقل السياسي الامازيغي هي الوفاء للفكرة والمبدأ في الموقف، فالمنخرط في خدمة المشروع السياسي الامازيغي، يجب أن لا يلهث وراء المشاركة في التدبير والحكم بدون شروط وبدون إرساء آليات الديموقراطية والحرية السياسية؛ فالمعارضة هي الأخرى أسلوب في الحكم والتأثير على القرار، وما حققته الامازيغية في الجزائر والمغرب رهين بالعمل داخل المعارضة السياسية.

• العقل السياسي الامازيغي مستقل عن السلطة؛ لا يمكن تصور ممارسة السياسة والتنظيم بدون الحرية في القرار السياسي، فالامازيغية قضية حرية قبل كل شيء وهي مرجعية تفرض الحرية ولا تقبل التبعية.

• العقل السياسي الامازيغي، لم يقتبس الديموقراطية كقيمة وكأسلوب في الحكم والتناوب والتداول بشأنه، لا من الغرب ولا من الشرق؛ وإنما يمارس الديموقراطية داخل بنية تراكمية وممتدة، باعتبارها إحدى أعمدة الحضارة الامازيغية ومرجعيتها الفلسفية، فلا شك أن الديموقراطية كفكرة فلسفية وسياسية نشأت منذ البداية في تربة شمال افريقيا وقاسمت مع الحضارة الاغريقية واليونانية مجال تبلور الفكرة والمفهوم في اطار عملية تثاقف ممتدة في التاريخ ومتراسخة في المجال المتوسطي القديم والحديث.

• العقل السياسي الأمازيغي، عقل حي ومنفتح ومستوعب، ينطلق من الذات ليكتشف العالم، لا يتقوقع على الذات، ولكن يحارب التذويب كما تتجلى في قضية التعريب على صيغة التفعيل التي تبنتها أنظمة شمال افريقيا، ولذلك فالعقل السياسي الامازيغي حداثي يؤمن بالتطورية ويؤمن بالدينامية، لا يقدس الأفكار واليوتوبيات، التي تعتقد في الأيديولوجيات اليقينية، عقل حداثي بمعنى السير بجانب العلوم ومواكبة الفكر البشري فيما يخدم الانسانية والمنظومة البيئية.

• العقل السياسي الامازيغي يضع أسس فلسفية ونظرية لممارسة السياسة والحكم من خلال مرجعية ثقافية وحضارية نابعة من عمق شمال افريقيا، فلا يستند العقل الامازيغي إلى المرجعيات الدينية كيفما كان نوعها لممارسة السياسة والتحكم في رقاب الناس على الأرض بشرائع من السماء. لذلك فالمرجعية السياسية الامازيغية تتأسس على قوانين وضعية عريقة نجحت في استدامة الموارد رغم ندرتها ونجاعة استغلالها.

هذه مقالة تحاول رد الاعتبار للعقل الامازيغي المعاصر في شخصية الزعيم السياسي الجزائري الحسين آيت حماد رحمه الله، والزعيم السياسي المغربي أحمد الدغرني، اطال الله في عمره، على ضوء قراءات لمؤلفات مفكرين مغاربة مثل الجابري والعروي وآخرون، الذين نظروا للعقل العربي وللايديولوجيا العربية، ويقاربون قضايا سياسية مثل الديموقراطية والتغيير والإصلاح داخل منظومة العروبة فوق أرض أمازيغية بالتاريخ والحضارة واللغة والثقافة، وبذلك يسقطون في المفارقات ويخرقون شرط العقلانية في أي عمل أو منهج نقدي. وأقتبس كلام مفيد من العروي للاستدلال بعدم عقلانية بعض أفكاره وتوجهاته القومية، وإن جاء ذلك الكلام في رد العروي على الجابري في قضية استعارة التراث، إلا أنها مقولة مفيدة للرد حتى على نفسه في توجهاته العروبية ويقول: “الخطاب الذي يتسم بالتكامل والشمول يتضمن حتما خطابين، احدهما تاريخي والثاني منطقي. بالتاريخ يتكون المعقول، والمعقول ينتظم بالواقع.” مفهوم العقل.

فالخطاب الامازيغي بشمال افريقيا هو الوحيد الذي يتسم بالتاريخ والمنطق.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments