المغاربة وعقدة تفوق الأجنبي


من المعلوم أن المغرب وشمال أفريقيا عموما تعرض عبر تاريخه لمجموعة من الإحتلالات والغزو من قبل قوى إستعمارية متعددة، وهذا دون الحديث عن الهجرات الطوعية التي تحدث عنها إبن خلدون في كتابه : ” كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر {..} “، خاصة الهجرات التي وقعت من فلسطين باتجاه شمال أفريقيا بعد انتصار النبي داوود على جالوت، والهجرات التي وقعت من اليمن باتجاه شمال أفريقيا مرورا بأرض الحبشة ( السودان وأثيوبيا وإريتيريا حاليا)  ومصر بعد خراب سد مأرب ( أنظر بهذا الصدد : مذكرات من الثراث المغربي الأصيل، المجلد الأول ، ميلاد مركز حضاري، مدير المجموعة : العربي الصقلي، النشر والطبع : التاميرا مدريد – Al Tamira Madrid، السنة 1985 )  ونتج عنها توافد اليهود إلى شمال أفريقيا واستقرارهم بها وامتزاجهم مع السكان الأصليين، وأدى ذلك إلى توافد ثقافات وحضارات وأجناس مختلفة واختلاطها بالحضارة والثقافة الأصلية وتشكيلها فسيفساء ثقافية وإثنية متنوعة، وبقدر ما كان لهذا التمازج الثقافي من وقع إيجابي فإن له أيضا وقعا سلبيا.

هذه الأحداث التاريخية كان لها دور في تهميش لغة السكان الأصليين ( الأمازيغية )، وإحلال لغات المحتلين مكانها، في المعاملات الإدارية والسياسية للمحتل، لكنها بقيت رغم ذلك( لغة السكان الأصليين) تقاوم بوسائلها الخاصة؛ حيث انحصر مجال استعمالها في الأمور المتعلقة بتدبير المعيش اليومي للسكان الأصليين؛ أي في البيت والحقل والمعبد ( الكنيس والدير والمسجد فيما بعد )، واستطاع الأمازيغ أن يتعاملوا مع المحتل بمنطق براغماتي؛ حيث وظفوا لغته للتخاطب معه، في حين وظفوا لغتهم للتخاطب فيما بينهم، وهكذا تولد لديهم منطق الاٍزدواجية اللغوية منذ القدم.

و هذه الإزدواجية اللغوية بقدر ما ساهمت في عرقلة مسار تطور اللغة الأمازيغية، بقدر ما كانت عاملا من عوامل بقائها على قيد الحياة، وعلى عكس بعض الشعوب التي كان لها نفس المسار التاريخي الذي للأمازيغ في شمال إفريقيا؛ حيث عملوا على تطوير لغاتهم من خلال تقوية الشعور القومي لديهم، وقاموا بطرد المحتل واستبعاد لغته من التداول، فإن الأمازيغ تعاملوا مع هذا الأمر بانفتاح كبير وبنوع من اللامبالاة، بحيث لم يتقوى الرابط القومي لديهم، وذلك أدى إلى تعاملهم مع موضوع اللغة بشكل براغماتي صرف، وهذه العقلية هي بالذات ما أفرز واقع التعدد اللغوي في شمال أفريقيا في الوقت الراهن.

لقد ورث المغاربة الحاليون من الأمازيغ القدامى هذا المنطق، لذلك تجدهم لا يتعاملون مع موضوع اللغة بنفس الحساسية القومية التي نجدها عند الأتراك أو الفرس أو الإسبان مثلا، وهذا المنطق وإن كانت له مزايا من ضمنها التسامح و الإنفتاح على لغات وثقافات الآخرين، إلا أن له مساوئ أيضا؛ ومن مساوئه أن المغربي لا يقدر شخصيته، ولا يسعى لتطوير ذاته، وتقوى لديه الشعور البراغماتي حيال موضوع اللغة إلى درجة كونه لم يعد مستعدا لبذل أدنى جهد لتطوير لغته الأصلية، وليس الأمازيغية فحسب بل وحتى اللغة العربية نفسها، وإحلالها المكانة التي تستحقها على غرار لغات باقي الشعوب والأمم المتحضرة، بل يهرع إلى ما هو موجود وجاهز للتداول وما بذل الآخرون جهدا في تطويره ليستعمله في حياته بدون عناء، وهذا الأمر ينطبق على موضوع اللغة، ولن نتوغل بعيدا في التاريخ لنستعرض هيمنة لغات المحتلين على الواقع السياسي والثقافي بشمال إفريقيا، بل سوف نلاحظ أن المغاربي عندما كانت اللغة الفرنسية هي لغة التحضر والرقي الثقافي، أخذها بدون عناء واستعملها في حياته الشخصية والإدارية والسياسية، وهاهو اليوم يسعى للقيام بنفس الشئ مع اللغة الإنجليزية.

ولا يقف الأمر عند اللغة الإنجليزية التي تطورت بالفعل لأن أهلها الإنجليز هم من طوروها من خلال إهتمامهم بالعلم والبحث العلمي بواسطتها، بل إن عقدة تفوق الأجنبي عند مغاربة العصر الراهن إمتدت لاستجلاب بعض اللغات التي لم يكن شأنها أكثر حظا من اللغتين العربية الأمازيغية، وهي اللغة التركية، فتراهم يتخاطبون بها في بعض المناسبات ويسمون بها المحلات التجارية ومشاريعهم الإقتصادية.

ومن مظاهر عقدة تفوق الأجنبي وبذل الجهد لإرضائه عند المغاربة أيضا كونهم مستعدون دائما للتخلي عن لغتهم الأصلية لمجرد حلول الأجنبي بين ظهرانيهم، أيا كانت جنسيته ولغته، فيتحولون مباشرة إلى الحديث بلغته حتى وإن كانوا لا يتقنونها، وهذا الأمر لا يحدث عندما يكون المغربي خارج بلده، بل وهو في بلده تجده يتخلى عن إحدى لهجاته الأمازيغية وعن الدارجة المغربية و يتحدث مع المصري باللهجة المصرية ومع الخليجي باللهجة الخليجية ومع التركي أو الهندي بلهجاتهم، في حين لا نجد أن هؤلاء يقومون بنفس الشئ عندما نسافر إلى بلدانهم، بل نكون مضطرين لتعلم لهجاتهم ولغاتهم، ولعل أبرز مثال يمكن تقديمه في هذا الإطار هو ظاهرة تحدث المغاربة باللهجة المصرية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، قبل أن تحل محلها اللغة التركية مع بداية الألفية الثالثة، وقد ساهمت الأفلام المصرية التي كانت تبثها القنوات العمومية في انتشار اللهجة المصرية والثقافة المصرية، لدرجة أنها انتشرت حتى في القرى و المداشر البعيدة، وصارت أغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفيروز وفريد الأطرش علامة على التحضر والرقي الثقافي، ويلاحظ أن جيلا بكامله لايزال يحمل هذه النوستالجيا ويعيد إنتاجها كلما سنحت له فرصة ذلك، ونفس الأمر حدث مؤخرا مع اللغة والثقافة التركية التي قامت المسلسلات التركية المدبلجة بالدارجة المغربية التي تبثها القناة الثانية بنشرها على أوسع نطاق، وصار نموذج عيش الأتراك ” العلماني” يستلهم المغاربة ويحاولون محاكاته رغم أنهم شعب محافظ، ورغم أن النظام الإجتماعي والسياسي في البلدين مختلفان كليا عن بعضهما البعض.

إن عقدة تفوق الأجنبي عند المغاربة تجعلهم ليسوا مستعدين لتطوير لغاتهم وفرضها كلغات للعلم والبحث العلمي والرقي الثقافي، وهكذا نجد أن لغاتهم يستعملونها فقط للحاجة الإجتماعية في السوق والمزرعة والبيت، بينما يستعملون اللغات الأجنبية للظهور بمظهر الرقي والتقدم والتحضر في المناسبات والمنتديات والإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي، وهذه الظاهرة هي التي دفعت الملك الحسن الثاني رحمه الله إلى القول في خطاب له بتاريخ 20 غشت 1994، أنه يفضل بل ويعتبر ذلك أكثر مناعة بالنسبة للمستقبل أن يسمع الطفل أو والديه يقومان بالخلط بين الدارجة والعربية الفصحى أو الخلط بين الدارجة وتاريفيت أو تامازيغت أو تاشلحيت من أن يسمعهم يقومون بالخلط بين العربية والفرنسية أو العربية والإسبانية.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments